أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

أبو زيد يكتب: ليست أخطاءً تكتيكيّة.. عندما تُنتج القرارات الاستراتيجيّة الخاطئة كوارث أُمميّة


زيد أبو زيد
أمين سر المكتب السياسي لحزب مسار

أبو زيد يكتب: ليست أخطاءً تكتيكيّة.. عندما تُنتج القرارات الاستراتيجيّة الخاطئة كوارث أُمميّة

زيد أبو زيد
زيد أبو زيد
أمين سر المكتب السياسي لحزب مسار
مدار الساعة ـ

كثيراً ما تُوصَف الكوارث الكبرى في تاريخنا الحديث بأنّها «أخطاء تكتيكيّة» أو «خسائر مرحليّة»، في محاولةٍ واعية أو غير واعية لتخفيف ثقل القرار، وإفراغه من مسؤوليّته التاريخيّة. غير أنّ الواقع يُثبت، بلا مواربة، أنّ معظم ما شهدته منطقتنا والعالم لم يكن زلّاتٍ عابرة في الميدان، بل قرارات استراتيجيّة خاطئة في أصلها، قادت، بصورةٍ شبه حتميّة، إلى خسائر استراتيجيّة شاملة دفعت ثمنها الشعوب لا صُنّاع القرار.

إنّ الخطأ التكتيكيّ بطبيعته محدود الزمان والمكان، يمكن احتواؤه أو تصحيحه ضمن إطار الصراع ذاته. أمّا الخطأ الاستراتيجيّ، فهو القرار المؤسِّس الذي يحدّد المسار، ويُعيد تشكيل البيئة السياسيّة والأمنيّة والقانونيّة، ويستدعي ردود فعل تتجاوز السيطرة. ومن هنا، فإنّ الأحداث التي غيّرت مصير دولٍ بأكملها لا يجوز توصيفها بأوصاف مخفِّفة تُضلّل الوعي العام.

بين التكتيك والاستراتيجية: توضيح لا يحتمل التأويل

التكتيك هو أداة التنفيذ، خطوة ظرفيّة قابلة للتعديل أو التراجع. أمّا الاستراتيجية فهي اختيار الطريق بأكمله، وتقدير موازين القوّة، واستشراف ردود الفعل، واحتساب النتائج بعيدة المدى. وبناءً على ذلك، فإنّ تدمير برجي التجارة العالميّة في الولايات المتّحدة لم يكن فعلاً تكتيكيّاً، بل خطأً استراتيجيّاً كارثيّاً فتح أبواب الحروب العابرة للقارات، وشرعن التدخّل العسكريّ، وأعاد تعريف القانون الدوليّ تحت شعار «الحرب على الإرهاب».

وبالمنطق ذاته، فإنّ السابع من أكتوبر لم يكن فعلاً تكتيكيّاً معزولاً، بل قراراً استراتيجيّاً لم يُحسَب ضمن موازين القوّة، ولا طبيعة النظام الإسرائيليّ، ولا انحياز النظام الدوليّ. وما تلاه من إبادةٍ وتهجيرٍ وتدمير شامل في غزّة ليس «خسائر تكتيكيّة»، بل نتائج استراتيجيّة مباشرة لخطأ استراتيجيّ، مهما بلغت فداحة الجريمة المرتكبة بحقّ الشعب الفلسطينيّ.

إنّ الاعتراف بذلك لا يبرّر الإبادة، ولا يُحمّل الضحيّة مسؤوليّة ما جرى، بل يُعيد النقاش إلى مساره الصحيح: تحميل القرار الخاطئ مسؤوليّته، دون منح الاحتلال صكّ براءة، ودون خلطٍ متعمّد بين عدالة القضيّة وسلامة القرار.

وقد تكرّر هذا النمط مراراً في تاريخنا الحديث. فاحتلال العراق للكويت كان قراراً استراتيجيّاً خاطئاً، قاد إلى خسائر استراتيجيّة تمثّلت في تدمير العراق ذاته، واحتلاله، وحلّ جيشه، وتفكيك دولته. لم يُعالَج الخطأ بوسائل سياسيّة متدرجة، بل جرى توظيفه ذريعةً لإعادة هندسة بلدٍ كامل، في مثالٍ صارخ على كيفيّة تحويل الخطأ إلى كارثة طويلة الأمد.

وتؤكّد تجارب أفغانستان وليبيا القاعدة ذاتها: الخطأ الاستراتيجيّ لا يُنتج خسارةً محدودة، بل يفتح الباب أمام تفكيك الدول والمجتمعات، حين يُقابل بردود فعل دوليّة مفرطة تُدار بمنطق القوّة لا بمنطق العدالة.

إنّ أخطر ما نواجهه اليوم هو استمرار الهروب من توصيف الخطأ بحجمه الحقيقيّ. فحين نُصرّ على تسمية القرار الاستراتيجيّ الخاطئ «تكتيكاً»، فإنّنا نمنع المحاسبة، ونُعيد إنتاج الكارثة، ونُورِّث الأجيال خسائر لا علاقة لها بعدالة القضيّة ولا بكرامة الإنسان.

الشجاعة الحقيقيّة ليست في تبرير ما لا يُبرَّر، ولا في إنكار الظلم الواقع على الشعوب، بل في الفصل الواضح بين حقّ القضيّة وخطأ القرار. فالقضايا العادلة لا تنتصر بالقرارات غير المحسوبة، بل برؤيةٍ استراتيجيّةٍ واعية تُدرك أنّ الخطأ في القرار قد يكون، في لحظةٍ ما، أخطر من العدوّ نفسه.

والله من وراء القصد.

مدار الساعة ـ