قد لا تجد أسمى من بطولة العمل الصامت ، التضحية التي لا ترفع عينها التماساً لثناء ، بل تكتفي بترديد عهدها بينها وبين خالقها . هذا هو الميثاق الذي وُلدنا عليه في هذا الحمى الأردني العظيم . أنا محمد العمران الحواتمة ، ابن لواء ذيبان ، من سلالة قبيلة بني حميدة الأبية ، التي تتشابك عروقها مع كل قبائل الأردن التي نفتخر بها ، من أقصى الشمال في هضاب حوران في اربد إلى حيث تعانق مياه عروس البحر الأحمر الساحل في العقبة . نحن جميعاً أهل وأنساب ودرع واحد ، وجميعنا أبناء هذا التراب الذي لم يقدم دفاعاً عن الأمة والقدس والأقصى إلا الغالي والنفيس ، بلا حساب أو منة . لم يكن الأردن يوماً ضيفاً على قضية فلسطين ، بل هو عمقها وسندها ، لم ينتظر شهادة تقدير على ما بذل ، فالقضية ليست مسألة أخذ ورد ، بل هي عقيدة متجذرة في وجدان كل أردني .
منذ انطلق طوفان الألم في السابع من أكتوبر، لم تكن متابعتي للأخبار باليوم بل بالساعة، والقلب يرتجف وجعاً لا يهدأ . في بلدتي ، رأيت الرجال يهرعون للتبرع ، والأطفال يفرغون مدخراتهم ، ورأيت نساءنا الباسلات يبعن ذهبهن المخزون ، ليس عن لزوم ولا عن رياء ، بل عن إيمان مطلق بأن غزة جزء من كياننا ، وأن ما نقدمه هو دين مقدس لا يكتمل إيماننا إلا به . هذا الشعور ليس وليد اللحظة ، بل هو امتداد طبيعي لروح الفداء المتأصلة فينا . وفي خضم هذا المد العارم من العطاء ، كان لسان حال القيادة الهاشمية والشعب العظيم يقولان بصدق لا يُضاهى : "ما زلنا مقصرين" . أي قامة هذه التي تعطي كل هذا ولا تزال ترى نفسها مقصرة ! هذا هو الفرق بين الواجب وبين المنّة . إن الأردن لم يكن ليتوارى خلف الأقوال ، فالمستشفيات الميدانية في غزة وفلسطين تقف شامخة كشاهد لا ينكر، تُدار بأيد أردنية مُباركة من نشامى الخدمات الطبية في جيشنا العربي . وعندما أغلقت الطرق ، جاء الرد العسكري الهاشمي حاسماً ، حيث اخترق سلاح الجو الملكي الحصار بطائراته التي ألقت المساعدات من السماء، فكانت أول دولة تفعلها ، في تحدٍ مهيب للقيود ، ليلاً نهاراً ، متحدين كل خطر . والهيئة الخيرية الهاشمية لم تتوقف عن دفع قوافل العون البرية ، وكأنها نهر لا ينضب ، يصب في شريان غزة . هذه ليست أفعال من يبحث عن مجد، بل هي أفعال من يرى الواجب أمراً مقدساً لا مجال للمساومة عليه . إن تاريخنا مع القدس لم يُكتب على الورق ، بل بمداد الدم الزكي . آلاف الشهداء من أجدادنا رووا بدمائهم ثرى فلسطين، وهذا الدم هو العهد الأبدي . ومن ينس التاريخ ، فليتذكر الموقف التاريخي الملحمي للمغفور له بإذن الله الحسين بن طلال ، عندما وضع كرامة الأمة كشرط أساسي لنجاة خالد مشعل من محاولة الاغتيال ، فما كان منه إلا أن شرط على الصهاينة إحضار ترياق علاجه فوراً ، متحدياً جبروتهم بصوت الكبرياء ، ليتبعه بإخراج الشيخ أحمد ياسين من سجونهم . هذا الموقف كان ترجمة حية لجوهر الوصاية الهاشمية على المقدسات ، وشهادة على أن الكرامة الوطنية والقومية هي الأساس الذي لا يمكن التنازل عنه قيد أنملة . هذا الثبات على المبدأ هو الذي يفسر لماذا نرفض الشكر اليوم . نحن لم نعمل من أجل الثناء بالأمس ، ولن نفعله اليوم . وعندما تصلني التساؤلات، من نوع: " لماذا لم يشكرنا فلان أو هذه النوعيات التي تخرج؟"، أقف شامخاً وأقول بصدق كل أردني : أنا شخصياً لا أنتظر منهم شكراً . فغايتنا ليست كلمة تقال أو ثناء يمنح ، بل الغاية هي أن تبقى الراية مرفوعة ، وأن تظل غزة صامدة ، وأن يبقى الأقصى حراً عربياً تحت الوصاية الهاشمية . نحن نعمل لأجل عهد الأجداد ، ووفاءً للشهداء ، وطاعةً لأمر إلهي ووطني ، وقناعة بأننا نحن الجدار والسقف لفلسطين . هذا العطاء هو شرف بذاته ، ولا يحتاج إلى من يشهد عليه . حفظ الله أردننا الأبي وقيادتنا الهاشمية التي تضرب أروع الأمثلة في الصدق والثبات، في ظل صاحب الجلالة الملك عبدالله الثاني بن الحسين ، وحفظ شعبنا الذي لا يعرف التخاذل ، وجيشنا العربي المصطفوي الباسل وأجهزتنا الأمنية الساهرة .الحواتمة يكتب: لماذا يرفض الأردنيون انتظار الشكر من أحد؟ الإجابة في التاريخ
المهندس محمد العمران الحواتمة
الحواتمة يكتب: لماذا يرفض الأردنيون انتظار الشكر من أحد؟ الإجابة في التاريخ
مدار الساعة ـ