أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات وظائف للأردنيين مجتمع أحزاب مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات شهادة جاهات واعراس مناسبات مستثمرون الموقف جامعات بنوك وشركات دين اخبار خفيفة رياضة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

القدس وسياسات العزل: بين فرض الطقوس وتفكيك الوضع القائم

مدار الساعة,أخبار الأردن,اخبار الاردن,وزير المالية,الضفة الغربية,المسجد الأقصى
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - رنا الزاغة (معهد السياسة والمجتمع) - تسارع إسرائيل في إعادة تشكيل الواقع المقدسي عبر مسار عمراني – أمنى متكامل، يستهدف المسجد الأقصى بوصفه محور التحول، فقد شهدت مدينة القدس في الفترات الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في وتيرة السياسات الإسرائيلية الهادفة إلى إعادة صياغة الواقع الجغرافي والديني فيها، حيث تُمارس استفزازات علنية داخل ساحات المسجد الأقصى تتم بالتعاون مع الشرطة الإسرائيلية، وتعبر عن رؤية ممنهجة تسعى إلى تغيير الطابع الإسلامي للمكان، وفرض واقع جديد تدريجيًا يسهل الوصول إلى التقسيم الزماني والمكاني.

يلعب التخطيط العمراني دور المحرك الرئيس لسياسات السيطرة داخل الحيز الديني، حيث يشكّل مشروع E1 إحدى أخطر أدوات العزل الجغرافي، إذ يسعى إلى ربط مستوطنة “معاليه أدوميم” بالقدس الشرقية عبر بناء مستوطنة بالمنطقة العازلة فيما بينهم، مما يؤدي فعليًا إلى محاصرة المدينة بالكامل وعزلها عن امتدادها الطبيعي في الضفة الغربية، إلى جانب تغيير التوازن السكاني في القدس لصالح الإسرائيليين. هذا العزل الجغرافي لا يقتصر على التأثيرات السكانية والعمرانية، بل يمتد إلى البُعد الديني – السياسي للمكان، حيث يتحوّل المسجد الأقصى إلى مساحة محاطة بالكامل بواقع استيطاني – أمني، يسهل من خلاله التحكم في الدخول والخروج وفرض سياسات أمر واقع تخدم مشروع “القدس الكبرى”.

الداخل الميداني في الأقصى

تقود هذه الأنماط مع الوقت، إلى إعادة تعريف الوضع القائم عبر مراكمة ممارسات متكرّرة؛ إذ يتعمّد المقتحمون إطالة زمن الاقتحامات عبر المراوغة التي تؤدي الى التغيير بما يؤسس عمليًا لتقسيم زماني مقصود. وبالتوازي مع ذلك، يتم إدخال طقوس توراتية إلى ساحات المسجد ويطبقونها، إلى جانب ممارسات مثل إدخال قربان والنفخ بالبوق. ومع استمرار التكرار، يتحول الاستثناء إلى قاعدة ويُعاد تشكيل إدارة المكان عمليًا خارج حدود “الوضع القائم”.

على المستوى الرسمي، انتقلت التصريحات من التلميح إلى الإحالة الصريحة. ففي مؤتمر جماهيري في القدس خاطب وزير المالية بتسلئيل سموتريتش رئيس بلدية القدس قائلًا: “سأعطيك المال، وأنت ستبني الهيكل“، وهي عبارة – وان قُدمت كدعابة – تعكس تطبيعًا رمزيًا لفكرة التحضير المؤسسي لبناء الهيكل المزعوم.

يُرافق هذه الممارسات تقويض متعمد لسلطة حُرّاس المسجد وموظفي الأوقاف، بما يُضعف الدور الرسمي والشرعي للأوقاف في إدارة شؤون المسجد. التدخلات المتكررة للمستوطنين والقوات الإسرائيلية، وما يصاحبها من تجاوز لصلاحيات الحراس وفرض وقائع ميدانية جديدة، تشكل مسارًا تدريجيًا نحو إفراغ المرجعية الدينية من مضمونها وتحويلها إلى وجود رمزي بلا فاعلية. بذلك، لا يمكن النظر إلى هذه الممارسات باعتبارها انتهاكات عابرة، وانما باعتبارها جزءًا من سياسة تهدف إلى تقويض دور الموظفين داخل المسجد الأقصى، لصالح تكريس سيطرة الاحتلال وتقليص أي دور أردني – فلسطيني فاعل في حمايته والحفاظ على وضعه القائم.

الحرم الابراهيمي كنموذج مصغر

يمكن قراءة المسار الحالي في الأقصى من خلال تجربة الحرم الابراهيمي في الخليل والذي انتهى الى تقسيم، إذ يبدأ المسار بذريعة أمنية، مرورًا بتقليص صلاحيات الأوقاف والحراس، ويتم توسيع أوقات الاقتحامات وتنظيم مسارات الدخول والخروج، ثم إدخال طقوس يهودية رمزية مثل النفخ بالبوق والتفلّين والقربان لتتحوّل “الإجراءات المؤقتة” بالتكرار إلى قواعد ثابتة، بما يُفضي في النهاية إلى تقاسم زماني/ مكاني مُقنن كما حدث في الإبراهيمي.

يؤدي هذا إلى مساس بترتيبات الوضع القائم. فالمادة (9) من معاهدة السلام تُقرّ الدور الخاص للأردن في رعاية المقدسات الإسلامية في القدس، واتفاق عمّان–رام الله (2013) يُجدّد الوصاية الهاشمية ومرجعية الأوقاف في الإدارة والصيانة. وعندما تُنتج الإجراءات المتكرّرة تغييرًا وظيفيًا في إدارة[A1] المكان، فإنها تمسّ جوهر هذا الدور وتُضعف الإطار الإداري الذي يقوم عليه “الوضع القائم”. بالتالي، يصبح واجبًا توصيف المستجدات باعتبارها انحرافًا عن التزامات منصوص عليها وليست فقط اختلافًا في التطبيق الميداني. وعليه، لا تُعدّ التحوّلات مجرد “تدابير أمنية” بل مساسًا بهوية المكان ونظامه الإداري.

السياسات الاقتصادية والإدارية: في تفتيت المشهد المقدسي

تُستعمل السياسات الاقتصادية أداةً تفتيتية ضمن مسار “إعادة هندسة” المدينة. فتكلفة تراخيص البناء تصل أحيانًا إلى مستويات تجعلها في متناول قلة من الفلسطينيين، ما يدفع العديد إلى البناء من دون ترخيص، وهو ما يعرضهم لاحقاً للهدم والغرامات. إلى جانب ذلك تفرض سلطات الاحتلال ضرائب متعددة مثل ضريبة المسقوفات (الأرنونا) وضريبة الدخل وضريبة القيمة المضافة، فضلاً عن رسوم التأمين الوطني، حتى باتت الجباية وسيلة لإعادة تشكيل الحيّز الجغرافي والسلوك السكاني.

يبدأ الضغط الاقتصادي من بوابة العمران، حيث تتحول تراخيص البناء إلى عائق مُثقل، إذ تصل كلفتها إلى نحو 80% من قيمة البناء نفسه، ما يثني الفلسطينيين عن البناء والتوسّع ويجعل أي محاولة لترميم المسكن أو زيادته شيء مكلف. وحين يلجأ البعض للبناء من دون ترخيص تجنباً لهذا العبء، ينتظرهم هدم لاحق وغرامات تُفرض بصورة تعسفية، فتُغلق تدريجياً هوامش التوسّع الفلسطيني داخل المدينة.

يتجلى التمييز أيضًا في توزيع الموارد؛ إذ تشير البيانات إلى أن 39٪ من سكان القدس فلسطينيون، إلا أنه يتم تخصيص فقط 10% لهم من ميزانية البلدية، ما ينعكس على الخدمات والبنية التحتية ويعمق فجوة الرفاه ويعزز التفتيت المجتمعي. على الجانب الإداري، يؤدي نظام الإقامة إلى ترسيخ الهشاشة؛ فمنذ عام 1967 أُلغيت عشرات الآلاف من إقامات الفلسطينيين في المدينة، وأصبحت سحب الإقامة مرتبطة بما تراه السلطات “خرقًا للولاء”، ما يجعل الحق في الإقامة هشًا وسهل السحب ويفتح الباب أمام الترحيل التعسفي متى شاءت السلطات.

هذه الضرائب والسياسات المتبعة تمثل أداة ضغط سياسي واقتصادي لحسم الديمغرافيا لصالح اليهود في القدس حيث يشير تقرير سابق منشور إلى أن شهر مايو/أيار ويونيو/حزيران تم تسجيل 51 عملية هدم ذاتي وقسري بالإضافة إلى 300 قرار اخلاء، إلى جانب 11 حالة ابعاد عن المسجد الأقصى وحالة واحدة لسحب هوية لمقدسي.

خاتمة

تشير المعطيات مجتمعة إلى أنّ السياسات الإسرائيلية في القدس لا تعمل في مسارات مختلفة، بل في إطار متكامل يجمع بين العمران والأمن والدين والاقتصاد. النتيجة هي تفكيك تدريجي للنسيج الفلسطيني عبر أدوات تبدو إدارية أو مالية في ظاهرها، لكنها تؤسس عمليًا لسياسة التهجيرالناعم، حيث يُثقل كاهل المقدسيين بتكاليف الإقامة والبناء والضرائب إلى حد يدفعهم للمغادرة. ومع استمرار تراكم هذه الإجراءات، يصبح “الوضع القائم” أقرب إلى واقع جديد يُدار بحكم الأمر الواقع، يغيّر ملامح القدس ديموغرافيًا ودينيًا وسياسيًا، ويمهّد الطريق لتكريس مشروع “القدس الكبرى”


مدار الساعة ـ