أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية شهادة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف جامعات خليجيات دين مغاربيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

صقرُ الأردن يترجّل.. تكريمٌ للكابتن الطيّار الدكتور محمد فيّاض مطر الخوالدة

مدار الساعة,مناسبات أردنية,الملك الحسين بن طلال,الملك عبدالله الثاني,الملكية الأردنية,سلاح الجو الملكي
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - كتب عون الخوالدة -

يطوي الكابتن الطيّار الدكتور محمد فيّاض مطر الخوالدة صفحةً من أنبل صفحات الخدمة العامة، مقدّمًا استقالته من عمله في أكاديمية الطيران الملكية الأردنية بعد ستّين عامًا من الانضباط والاقتدار والريادة (1965–2025)، ليتفرّغ لحياته الخاصة وأهله. يترجّل الصقر، ويبقى الأثر الذي لا يُمحى. من حيان بدأت الحكاية، ومن سماء الأردن كُتبت فصولها؛ نشأ على بساطة الريف وثوابته، فكان أولَ طيّارٍ في قبيلة بني حسن وأولَ طيّارٍ في محافظة المفرق، علامةً فارقةً في سجلّ محافظةٍ عُرفت برجالها الأوفياء. دخل سلاح الجو الملكي شابًا فأحسن التعلّم والتدرّب والقيادة؛ طيّارًا مقاتلًا ثم مدرّبًا، فقائدَ سربٍ وجناح، ثم آمرًا لقاعدةٍ جويةٍ مقاتلة وآمرًا للكلية الجوية للتدريب، وممثلًا لوطنه ملحقًا جويًا في لندن، وموجّهًا في كلية الحرب الملكية، ومديرًا للتدريب في سلاح الجو. شهد مع وطنه محطاتٍ مفصليةً وأحداثًا جسامًا وظلّ ثابتًا على المبدأ، وأضاف إلى خبرته الميدانية تأهيلًا استراتيجيًا رفيعًا بدورة الركن، ليجمع بين دقة الميدان ورشادة القرار.

وحين حان أوان الانتقال من قمرة القيادة إلى إدارة المنظومات، حمل روح الجندي إلى المؤسسة. وفي عام 1993 انتقل مديرًا عامًا إلى أكاديمية الطيران الملكية الأردنية وهو برتبة عميد طيّار مقاتل، إذ اختاره المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال لهذه القيادة؛ وباشر عمله بلباسه العسكري وعلى كتفيه رتبة عميد، ليبدأ فصلًا إداريًا صنع فيه معيارًا يُحتذى. فتسلّم قيادة الأكاديمية فأرسى ثقافةً للعمل تُقاس فيها القيمة بالمعيار لا بالضجيج؛ شدّد على السلامة والانضباط والجودة، وربط التدريب بحاجة الدولة وسوقها، فنهضت المؤسسةُ بهيبةٍ مهنيةٍ تجعلها مرجعًا إقليميًا لصناعة الطيران ومهاراته. وبلغة الأرقام، رفدت هذه المسيرةُ الاقتصادَ الأردني — بصورةٍ مباشرةٍ وغير مباشرة — بما يقارب المليار دولار، نتيجة منظومات تدريب وشراكات ومشاريع امتدّ أثرها داخل البلاد وخارجها. ثم واصل البناء في كلية الملكة نور الفنية للطيران المدني وفي مجالس الإدارات ذات الصلة، مُعلّمًا بالقدوة أنّ الإدارة والإرادة الحقيقية هي أن تترك المكان أصلبَ ممّا وجدته، وأن تُسلّم الراية مرفوعةً لا يثقلها اسمٌ ولا تُضعفها مناسبة.

لقد حلق “الصقر الأردني” عاليًا باسم وطنه تحت الراية الهاشمية؛ حمل العهد مع الملك الحسين بن طلال طيّب الله ثراه، ومضى به على نهج الولاء والوفاء في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله. ظلّ يرى أن خدمة العرش الهاشمي في جوهرها خدمةٌ للأردنيين جميعًا، وأن هيبة الدولة تُصان حين تتقدّم المعايير على الأشخاص، والمؤسسة على العنوان. لذلك لم تكن مسيرته تقويمًا يُقلّب، بل مدرسةً تُخرّج رجالًا ونساءً يحملون روح الانتماء نفسها، ويُتقنون الإقلاع الآمن والهبوط الكريم: إقلاع المشاريع على قواعد راسخة، وهبوط القادة عن المناصب وقد تركوا خلفهم مؤسساتٍ تعمل من دونهم لأنهم بنوها لتبقى.

وإذا كانت المناصبُ تُعرَف بما يُنجَز فيها، فقد عُرف الدكتور الطيار محمد فيّاض الخوالدة بما هو أبقى: بوصلةُ وطنٍ لا تحيد، ولسانُ هدوءٍ عند الشدائد، ويدٌ تبني بلا استعراض. لم يطلب ضوءًا، بل جعل من الضوء معيارًا؛ ولم يُكثِر القول، لأن فعله كان أفصح من كل بيان. وفي المجتمع ظلّ وفيًّا لجذوره وأهله، يفتح أبواب العلم، ويشدّ أزر المبادرات، ويقف حيث يحتاج الناس إلى سندٍ صامتٍ نبيل.

اليوم وهو يختار التفرّغ لأسرته، يضيف فصلًا أخيرًا بليغًا إلى كتاب القدوة: أن تغادر موقعك وقد رفعت سقف التوقّعات لمن يأتي بعدك؛ أن تُحسن الهبوط كما أحسنت الإقلاع؛ وأن يُختَصر تاريخُ مؤسسةٍ في رجلٍ ثم يعود فيتمدّد إلى أجيال. تحيةُ إجلالٍ ووفاء للكابتن الطيّار الدكتور محمد فيّاض مطر الخوالدة؛ صورةُ دولةٍ حين تُرى في رجل، ودرسُ قيادةٍ حين يُختزل في أداء. يترجّل الصقر، لكنّ التحليق الذي علّمه للأردن وأبنائه باقٍ؛ وتُطوى صفحةُ منصب، لكنّ العهد للوطن وللراية الهاشمية يبقى، ما بقيت في هذه الأرض قلوبٌ تؤمن بأن خدمة الأردن شرفٌ يُحمَل، لا لقبٌ يُحمَل. حفظ الله الأردن وقيادته، وأدام على رجاله المخلصين تمام العافية وطول البقاء.


مدار الساعة ـ