مدار الساعة - كتبت د. ناديا محمد نصير -
لم تكن محكمته مجرّد قاعة للقانون، بل نافذة أمل، ومساحة دفء في عالمٍ يغلب عليه الصقيع. على مقعد القضاء جلس رجلٌ مختلف، لم يحمل المطرقة ليُرعب، بل ليُذكّر أن العدل يمكن أن يكون إنسانيًا، وأن القانون بلا قلب ليس عدلًا. ذلك الرجل كان القاضي الأميركي فرانك كابريو، الذي لُقّب بـ"القاضي الرحيم"، والذي ودّع الحياة بعد صراعٍ طويل مع سرطان البنكرياس، عن عمر ناهز الثامنة والثمانين.لقد أحبّه الملايين حول العالم، لا لسطوته القضائية، ولا لمكانته المرموقة، بل لوجهه المضيء بابتسامةٍ حانية، ولصوته الذي حمل العدل مغلفًا بالرحمة. كان يرى في كل من يقف أمامه إنسانًا قبل أن يكون متهمًا، ويصغي بحنان نادر، كأنما قاعة المحكمة بيت يلمّ المرهقين من شظف الحياة.لقد عُرف كابريو بـ"القاضي الرحيم"، إذ لم يكن ينظر إلى من يقف أمامه باعتباره مذنبًا وحسب، بل كإنسان قد أثقلته الحياة بالديون والأوجاع. كان يستمع بإنصاتٍ نادر، ويترك مساحة للدموع أن تتكلم قبل أن ينطق بالحكم. كثيرًا ما غيّر قراراته في لحظة، ليس ضعفًا في تطبيق القانون، بل إيمانًا بأن العدالة الحقيقية لا تُقاس فقط بالنصوص، بل بقدرتها على مداواة قلبٍ مثقل وتضميد جرحٍ خفي.في مقاطع انتشرت كالنار في الهشيم، شاهده العالم وهو يبتسم لطفلٍ جاء مع والده للمحكمة، أو وهو يعفي عجوزًا أنهكها العمر عن الغرامة، أو وهو يواسي شابًا تاه في دروب الحياة. تلك اللحظات البسيطة صنعت من محكمته مسرحًا عالميًا للإنسانية، وأكدت أن القاضي يمكن أن يكون أبًا، وأن المحكمة يمكن أن تتحول إلى بيتٍ آمن، وأن القانون يمكن أن يكتسب وجهًا رحيمًا لا يعرفه كثيرون.رحل فرانك كابريو، تاركًا وراءه إرثًا لن يُمحى. إرثٌ يُذكّرنا أن القوة لا تكمن في إصدار الأحكام وحدها، بل في القدرة على التخفيف من قسوتها. أن الكرامة الإنسانية لا ينبغي أن تُهان مهما كانت الظروف، وأن العدالة التي لا تعرف الرحمة ليست إلا قشرة جوفاء. لقد أثبت أن البشر يحتاجون إلى قلبٍ يسمعهم بقدر ما يحتاجون إلى عقلٍ يحاكمهم.اليوم، ونحن نودّع "القاضي الرحيم"، نشعر أننا نفتقد أكثر من مجرد شخصية عامة. نفتقد مدرسة كاملة في فن الإصغاء، في احترام الإنسان، وفي إعلاء قيمة الرحمة فوق قسوة النظام. لقد غاب الجسد، لكن الدروس باقية، وستبقى ابتسامته تُذكّر كل من يعتلي منصة القضاء بأن خلف كل قضية إنسان، وخلف كل خطأ حكاية، وخلف كل حكم فرصة للغفران.ولعل أعظم ما تركه كابريو لنا هو إيمانه الراسخ بأن الرحمة لا تُنقص من هيبة القانون، بل تزيدها رفعة. لقد جعلنا نعيد التفكير في شكل العدالة التي نمارسها في حياتنا اليومية، مع أبنائنا وأصدقائنا وحتى غربائنا، فأثبت أن الرحمة هي الوجه الأجمل للعدل.سيظل العالم يتذكره لا كقاضٍ أميركي فقط، بل كرمز عالمي للإنسانية. رجلٌ بسيط الملامح، كبير الأثر، ترك إرثًا من الأمل في أن العدالة حين تتزين بالرحمة يمكن أن تغيّر حياة إنسان، بل وتعيد إيماننا بالبشرية كلها.رحم الله فرانك كابريو، وأسكنه فسيح جناته. سيظل ابتسامته تعيش في ذاكرة العالم كرسالة خالدة: أن العدل بلا رحمة يتيه، وأن الرحمة بلا عدل تضيع… أما حين يجتمعان معًا، يضيئان الطريق للبشر جميعًا.رحيل قاضٍ علّم العالم أن العدل بلا رحمة ليس عدلًا

مدار الساعة ـ