"مِنْ ضَوْءِ الشَّاشَةِ إِلَى نُورِ الرِّسَالَةِ: تَأَمُّلَاتٌ تَرْبَوِيَّةٌ بَيْنَ القَمَرِ وَالمَوْجِ"
في لَيْلَةٍ صَمَتَتْ فِيهَا الأَرْضُ، وَأَضَاءَتِ السَّمَاءُ، جَلَسْتُ عَلَى شَاطِئٍ يَتَنَفَّسُ فِيهِ البَحْرُ بِهُدُوءٍ، وَيَتَحَاوَرُ فِيهِ القَمَرُ مَعَ المَاءِ بِصَمْتٍ سَاحِرٍ. كَانَتِ النُّجُومُ تَتَلَأْلَأُ فِي السَّمَاءِ، كَأَنَّهَا وَمَضَاتٌ مِنْ ضَوْءٍ تَنْتَظِرُ مَنْ يَقْرَأُ رَسَائِلَهَا.
هُنَاكَ، بَيْنَ نُورِ القَمَرِ وَهَمْسِ المَوْجِ، حَيْثُ تَنْكَشِفُ الحَيَاةُ فِي هُدُوئِهَا، وُلِدَتْ فِي دَاخِلِي تَأَمُّلَاتٌ عَنِ التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ الرَّقْمِيِّ...
▫ هَلْ نُحْسِنُ اسْتِخْدَامَ التِّقْنِيَّةِ فِي تَرْبِيَةِ الإِنْسَانِ؟
▫ هَلْ مَا زِلْنَا نُدِيرُ الوَسَائِلَ، أَمْ أَصْبَحَتْ هِيَ الَّتِي تُدِيرُنَا؟
▫ هَلْ يُمْكِنُ لِلطَّبِيعَةِ أَنْ تُلْهِمَنَا فَهْمًا أَعْمَقَ لِلتَّعْلِيمِ فِي زَمَنِ الشَّاشَةِ؟
? البَحْرُ لا يُفْشِي أَسْرَارَهُ لِمَنْ يَسْبَحُونَ عَلَى السَّطْحِ
أَمَامَ البَحْرِ، بَدَا لِي التَّعْلِيمُ الرَّقْمِيُّ كَأَنَّهُ مِرْآةٌ لَهُ: سَطْحٌ لَامِعٌ وَجَذَّابٌ، يُخْفِي فِي أَعْمَاقِهِ عَوَالِمَ لا تُدْرَكُ إِلَّا بِالغَوْصِ.
فَالتَّعْلِيمُ الرَّقْمِيُّ لَيْسَ مُجَرَّدَ عَرْضِ شَرَائِحَ، وَلَا اخْتِبَارٍ عَلَى مَنْصَّةٍ، بَلْ هُوَ رِحْلَةٌ مَعْرِفِيَّةٌ تَفَاعُلِيَّةٌ، تَتَطَلَّبُ مَهَارَةً وَبَصِيرَةً، وَتَحْتَاجُ إِلَى:
▫ مُرَبٍّ يُجِيدُ الإِبْحَارَ،
▫ وَمُعَلِّمٍ يُمْسِكُ بِالدَّفَّةِ وَسْطَ التَّيَّارَاتِ وَالمَوْجِ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ﴾
سُورَةُ يُونُس: ٢٢
تُذَكِّرُنَا الآيَةُ أَنَّ السَّيْرَ فِي البَحْرِ لا يَكُونُ بِلَا تَوْجِيهٍ، وَلَا فِي البَرِّ بِلَا بُوصَلَةٍ.
وَكَذَلِكَ السَّيْرُ فِي عَالَمِ التِّقْنِيَّةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ:
▫ هُدَى القِيَمِ،
▫ وَضُوحِ الِاتِّجَاهِ،
▫ وَبُوصَلَةٍ نَقْدِيَّةٍ وَاعِيَةٍ تَهْدِي السُّلُوكَ وَتَضْبِطُ الِاخْتِيَارَ،
▫ وَبَصِيرَةٍ رَقْمِيَّةٍ تَرْبِطُ الوَسِيلَةَ بِالرِّسَالَةِ،
▫ وَعُمْقٍ تَرْبَوِيٍّ يَحْرُسُ المَعْنَى.
مَنْ ظَنَّ أَنَّ التَّعْلِيمَ الرَّقْمِيَّ مُجَرَّدُ أَدَوَاتٍ، فَقَدْ تَاهَ عَنْ جَوْهَرِهِ، وَغَابَتْ عَنْهُ حَقِيقَةُ المَعْنَى. إِنَّهُ قَضِيَّةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ تَبْدَأُ بِسُؤَالٍ: مَاذَا نُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الأَدَاةِ؟
? دُرُوسٌ مِنَ القَمَرِ: لَا يُضِيءُ بِذَاتِهِ
نَنْبَهِرُ أَحْيَانًا بِضَوْءِ القَمَرِ... وَنَنْسَى أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ نُورًا مِنْ ذَاتِهِ، إِنَّهُ مِرْآةٌ لِلشَّمْسِ.
وَكَذَلِكَ التِّقْنِيَّةُ فِي التَّعْلِيمِ: لَا تُضِيءُ بِذَاتِهَا، بَلْ تَعْكِسُ مَا نُغَذِّيهَا بِهِ مِنْ قِيَمٍ وَأَهْدَافٍ وَرَسَائِلَ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾
سُورَةُ يس: ٣٩
آيَةٌ تُعَلِّمُنَا أَنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ نِظَامًا دَقِيقًا، وَفَلَكًا لَا يَتَعَدَّاهُ.
أَمَّا التِّقْنِيَّةُ، فَلَيْسَتْ خَلْقًا إِلَهِيًّا كَالقَمَرِ، بَلِ اخْتِرَاعٌ بَشَرِيٌّ، يَحْتَاجُ إِلَى ضَبْطٍ وَتَقْوِيمٍ.
فَلَا نَقُولُ بِتَقْدِيرِ "مَنَازِلَ" التِّقْنِيَّةِ، بَلْ بِضَبْطِ مَسَارَاتِهَا، وَتَوْجِيهِ فَلَكِهَا الأَخْلَاقِيِّ، حَتَّى لَا تَخْرُجَ عَنْ مَدَارِ القِيَمِ، وَلَا تَفْقِدَ بُوصَلَتَهَا التَّرْبَوِيَّةَ.
فَالشَّاشَةُ لَا تُرَبِّي وَحْدَهَا، وَالتَّطْبِيقُ لَا يُهَذِّبُ، وَالوَسِيلَةُ لَا تُعَلِّمُ الصِّدْقَ، إِنْ لَمْ يُغَذِّهَا قَلْبٌ صَادِقٌ مِنْ وَرَاءِ الشَّاشَةِ.
مَا يُضِيءُ فِي النِّهَايَةِ هُوَ:
▫ المُرَبِّي الهَادِفُ،
▫ وَالمُعَلِّمُ الوَاعِي،
▫ وَالنِّيَّةُ الصَّالِحَةُ.
قَالَ ﷺ: "إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ."
وَهَلِ التِّقْنِيَّةُ فِي التَّعْلِيمِ إِلَّا عَمَلٌ نُحَاسَبُ عَلَيْهِ بِنِيَّةِ اسْتِخْدَامِهِ؟
? المَدُّ وَالجَزْرُ: التَّرْبِيَةُ الرَّقْمِيَّةُ فِي إِيقَاعِهَا الخَفِيِّ
تَأْثِيرُ القَمَرِ فِي البَحْرِ لَا يُرَى... وَلَكِنَّهُ يُحَسُّ. مَدٌّ وَجَزْرٌ، جَذْبٌ وَدَفْعٌ.
وَهَكَذَا التَّرْبِيَةُ الرَّقْمِيَّةُ: لَيْسَتْ مُجَرَّدَ بَثٍّ لِلْمَعْلُومَاتِ، بَلْ جَاذِبِيَّةٌ فِكْرِيَّةٌ وَعَاطِفِيَّةٌ تَرْبِطُ الطَّالِبَ بِالمُحْتَوَى، كَمَا يَشُدُّ القَمَرُ البَحْرَ بِقُوَّةٍ خَفِيَّةٍ لَا تُرَى، وَلَكِنَّهَا تُحَسُّ.
هَلْ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَجْعَلَ التَّعْلِيمَ الرَّقْمِيَّ يُحَرِّكُ الطُّلَّابَ كَمَا يُحَرِّكُ القَمَرُ المَاءَ؟
نَعَمْ، إِذَا جَعَلْنَاهُ:
▫ مُثِيرًا لِلْفُضُولِ، لَا مُكَرِّسًا لِلْمَلَلِ،
▫ مُشَجِّعًا عَلَى الإِنْتَاجِ، لَا حَابِسًا فِي الِاسْتِهْلَاكِ،
▫ بَوَّابَةً إِلَى البَحْثِ، لَا مَمَرًّا لِلْمَعْلُومَةِ الجَاهِزَةِ،
▫ حَامِلًا لِلْمَعْنَى، لَا تَابِعًا لِلتَّرْفِيهِ.
وَكَمَا أَنَّ القَمَرَ لَا يُحَرِّكُ البَحْرَ فَوْضَوِيًّا، فَالتِّقْنِيَّةَ لَا تَخْلُقُ الإِيقَاعَ، بَلْ تَحْتَاجُ إِلَى مَنْ يُضْبِطُهُ... كَمَا أَنَّ لِلْمَدِّ مَوَاعِيدَهُ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لِلتِّقْنِيَّةِ مَوَازِينُهَا الأَخْلَاقِيَّةُ، تَرْبِطُ المَهَارَةَ بِالقِيمَةِ، وَالحُضُورَ الرَّقْمِيَّ بِالنِّيَّةِ الأَخْلَاقِيَّةِ.
? دُرُوسٌ تَرْبَوِيَّةٌ مِنَ البَحْرِ وَالقَمَرِ
تُرْشِدُنَا الطَّبِيعَةُ، إِنْ أَمْعَنَّا النَّظَرَ، إِلَى قَوَاعِدَ تَرْبَوِيَّةٍ نَحْتَاجُهَا فِي زَمَنِ الشَّاشَةِ:
١. كَالبَحْرِ: التِّقْنِيَّةُ كَالبَحْرِ، لَهَا أَعْمَاقٌ... لَا تُكْتَشَفُ إِلَّا بِالغَوْصِ القِيَمِيِّ وَالمَعْرِفِيِّ.
٢. كَالقَمَرِ: لَا يُضِيءُ بِذَاتِهِ... بَلْ يَعْكِسُ نُورَ الرِّسَالَةِ. فَلْنَكُنْ نَحْنُ الشَّمْسَ، الَّتِي تَمْنَحُ التِّقْنِيَّةَ نُورَهَا.
٣. كَالجَاذِبِيَّةِ: التِّقْنِيَّةُ تُحَرِّكُ العُقُولَ إِنْ وُجِّهَتْ... وَتُرْبِكُهَا إِنْ تُرِكَتْ فِي فَوْضَى.
٤. وَكَالنَّاسِ مَعَ القَمَرِ: نُعْجَبُ بِنُورِهِ... وَلَكِنْ لَا نُقَدِّسُهُ. كَمَا يَنْبَغِي أَلَّا نُقَدِّسَ التِّقْنِيَّةَ، بَلْ نَجْعَلَهَا خَادِمَةً لِلْإِنْسَانِ، لَا سَيِّدَةً عَلَيْهِ.
? مِنْ أَدَوَاتِ التَّعَلُّمِ... إِلَى أَخْلَاقِ المَعْرِفَةِ
تُشِيرُ دِرَاسَاتٌ تَرْبَوِيَّةٌ حَدِيثَةٌ (مِثْلَ تَقْرِيرِ مَرْكَزِ التَّعْلِيمِ الأَخْلَاقِيِّ الرَّقْمِيِّ بِجَامِعَةِ هَارْفَارْد، ٢٠٢٣) إِلَى أَنَّ دَمْجَ التِّقْنِيَّةِ مَعَ القِيَمِ يُضَاعِفُ مِنْ فَاعِلِيَّةِ التَّعَلُّمِ بِـنِسْبَةٍ تَصِلُ إِلَى ٦٠٪ مُقَارَنَةً بِالاِسْتِخْدَامِ الأَدَاتِيِّ البَحْتِ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا قَوْلُ التَّرْبَوِيِّ الإِنْجِلِيزِيِّ وِيلْيَام بَتْلَر:
"التَّعْلِيمُ لَيْسَ مَلْءَ وِعَاءٍ... بَلْ إِشْعَالُ نَارٍ."
وَهَذَا بِالضَّبْطِ مَا نَحْتَاجُهُ فِي تَعْلِيمِنَا الرَّقْمِيِّ: أَنْ نُشْعِلَ فُضُولَ المُتَعَلِّمِ، لَا أَنْ نَمْلَأَ ذَاكِرَتَهُ فَقَطْ.
فَلْنَجْعَلِ التَّعْلِيمَ الرَّقْمِيَّ شُعْلَةَ نُورٍ، لَا مُجَرَّدَ شَاشَةِ ضَوْءٍ.
? كَيْفَ نُضِيءُ الشَّاشَةَ بِالقِيَمِ؟
إِلَيْكَ ثَلَاثَ مُمَارَسَاتٍ يُمْكِنُ أَنْ تُسَاعِدَكَ، كَمُرَبٍّ، فِي تَحْوِيلِ التِّقْنِيَّةِ إِلَى تَجْرِبَةٍ تَرْبَوِيَّةٍ مُضِيئَةٍ:
١. صِنَاعَةُ مُحْتَوًى رَقْمِيٍّ يَحْمِلُ رِسَالَةً، يُبَثُّ فِيهِ المَعْنَى وَتُغَذَّى فِيهِ القِيَمُ: مِثْلُ فِيدْيُوهَاتٍ تَرْبَوِيَّةٍ قَصِيرَةٍ، أَوْ عُرُوضٍ قِصَصِيَّةٍ رَقْمِيَّةٍ هَادِفَةٍ.
٢. تَحْفِيزُ الطَّالِبِ عَلَى الإِنْتَاجِ، لَا الِاسْتِهْلَاكِ، مِنْ خِلَالِ مَشَارِيعَ رَقْمِيَّةٍ تُعَبِّرُ عَنْ أَفْكَارِهِ: مَدَوَّنَةٌ، بُودْكَاسْت، مَجَلَّةٌ إِلِكْتْرُونِيَّةٌ، تُشَارَكُ عَلَى مَنْصَّةٍ آمِنَةٍ، وَتَرْبِطُ بَيْنَ التَّعَلُّمِ وَالحَيَاةِ.
٣. النِّقَاشُ النَّاقِدُ لِمُحْتَوَى المَنْصَّاتِ: دَرِّبْ طُلَّابَكَ عَلَى تَفْكِيكِ وَتَحْلِيلِ مَا يُشَاهِدُونَهُ عَلَى يُوتِيُوب أَوْ تِيكْ تُوك بِعَدَسَةٍ أَخْلَاقِيَّةٍ نَاقِدَةٍ.
? وَمْضَةُ الخِتَامِ: كُنْ أَنْتَ القَمَرَ
لَا يُولَدُ القَمَرُ مُضِيئًا... وَلَكِنَّهُ يُحْسِنُ اسْتِقْبَالَ النُّورِ. فَكُنْ، أَيُّهَا المُعَلِّمُ، مَنْ يَحْمِلُ النُّورَ لِيَعْكِسَهُ، وَيُرْشِدَ طُلَّابَهُ عَبْرَ بَحْرِ المَعْرِفَةِ المُتَلَاطِمِ...
لَا بِضَوْءِ الشَّاشَةِ، بَلْ بِنُورِ الرِّسَالَةِ، وَبُوصَلَةِ القِيَمِ، وَوَهَجِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ.
عَلِّمْ أَبْنَاءَكَ أَنَّ التِّقْنِيَّةَ مِرْآةٌ لِمَا فِيهِمْ، وَأَنَّ الشَّاشَةَ لَا تَهْدِي الطَّرِيقَ... مَا لَمْ يَكُنْ فِي القَلْبِ بُوصَلَةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ.
وَعِنْدَئِذٍ فَقَطْ... لَا نُبْحِرُ بِعُمْقٍ مَجْهُولٍ، وَلَا بِضَوْءٍ خَافِتٍ، بَلْ بِنُورٍ يُهْتَدَى بِهِ، وَسُفُنٍ يَقُودُهَا الوَعْيُ وَالبَصِيرَةُ.
فِي عَالَمٍ يَتَقَاطَعُ فِيهِ المَوْجُ مَعَ الضَّوْءِ، وَتَتَزَاحَمُ فِيهِ الصُّوَرُ وَالكَلِمَاتُ، تَظَلُّ الأَخْلَاقُ هِيَ النُّورُ الَّذِي لَا يَنْطَفِئُ، وَالقَمَرُ الَّذِي نَهْتَدِي بِهِ مَهْمَا كَثُرَتِ الشَّاشَاتُ، وَتَلَاطَمَتْ أَمْوَاجُ التِّقْنِيَّةِ.
فَالْعِلْمُ نُورٌ، وَالإِيمَانُ زَادُهُ، وَالتَّرْبِيَةُ الصَّادِقَةُ نُورُهَا الَّذِي لَا يَخْبُو.

البستنجي يكتب: لا يُضِيءُ القَمَرُ وَحدَهُ.. كَمَا لا تُعَلِّمُ التِّقْنِيَّةُ وَحدَهَا
إياد يوسف البستنجي
البستنجي يكتب: لا يُضِيءُ القَمَرُ وَحدَهُ.. كَمَا لا تُعَلِّمُ التِّقْنِيَّةُ وَحدَهَا
مدار الساعة ـ