في أعماق كثير من الأفراد، يختبئ فراغ صامت لا يُرى بالعين، لكنه يُثقل القلب والعقل. إنه الخواء النفسي، ذلك الإحساس العميق بالفراغ واللاجدوى، وكأن الشخص غريب عن نفسه، رغم أن حياته قد تبدو كاملة من الخارج؛ علاقات، نجاحات، وإنجازات
لكن من أين ينبع هذا الشعور؟
ولماذا يلاحق البعض بينما ينجو آخرون منه؟
الجواب يكمن في جذور التربية، وتحديدًا في نمط التنشئة الأسرية. فالخواء النفسي لا يظهر فجأة في مرحلة البلوغ، بل غالبًا ما يُزرع في بيئة الطفولة، حين يُحرَم الطفل من الاحتواء العاطفي، والانتباه الوجداني، والاعتراف بمشاعره كجزء طبيعي من كيانه.
في الأسر التي تعتمد في تربيتها على القسوة أو التسلط، أو في تلك التي يسودها البرود العاطفي والانشغال الدائم، ينمو الطفل وهو يحمل صورة مشوشة عن نفسه والعالم. يتعلم أن يكبت حاجاته، ويخجل من مشاعره، ويُرضي الآخرين قبل أن يرضي نفسه وحين يكبر، يواجه صعوبة في بناء روابط عاطفية مستقرة، أو في الشعور بالأمان حتى وسط الأصدقاء أو الأحبة.
وقد تظهر أعراض الخواء النفسي في عدة أشكال:
الشعور المستمر بالوحدة حتى وسط الناس.
البحث المستمر عن الحب أو القبول.
التعلق الزائد بالآخرين أو الخوف المرضي من الهجر.
تقلبات الهوية وفقدان الشغف.
الميل إلى سلوكيات إدمانية (كالطعام، العلاقات، التسوق...) لتعبئة هذا الفراغ.
إن إدراك العلاقة بين نمط التنشئة والخواء النفسي هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. فحين نفهم أن الفراغ الذي نشعر به اليوم ليس ضعفًا، بل نتيجة لاحتياجات لم تُلبَّ، نبدأ بمسامحة أنفسنا، والبحث عن طرق حقيقية لإعادة التواصل مع الذات.
والعلاج النفسي، خاصة في بيئة داعمة وآمنة، يُعد من أهم الأدوات في هذا الطريق. فهو يساعد الفرد على إعادة بناء هويته من الداخل، وعلى التعرف إلى مشاعره واحتياجاته، دون خجل أو إنكار. كما أن تبنّي نمط حياة يدمج بين العناية بالنفس، والصدق العاطفي، والتعبير عن الذات، يمكن أن يسهم في ملء ذلك الفراغ تدريجيًا.
في النهاية، الخواء النفسي ليس نهاية الطريق، بل بداية صرخة داخلية للعودة إلى الذات الحقيقية… الذات التي تستحق أن تُسمع، تُفهم، وتُحب.