أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

شطناوي يكتب: الرواية الشفهية.. بين فلسفة الإبستمولوجيا وأنطولوجيا الهوية الوطنية


أحمد طناش شطناوي
شاعر أردني :: رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/إربد

شطناوي يكتب: الرواية الشفهية.. بين فلسفة الإبستمولوجيا وأنطولوجيا الهوية الوطنية

أحمد طناش شطناوي
أحمد طناش شطناوي
شاعر أردني :: رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين/إربد
مدار الساعة ـ

في زمن طغت فيه الوثيقة المكتوبة على المروي الشفهي، وفي عصر أصبحت فيه الأرشفة الورقية والرقمية معياراً وحيداً للمصداقية التاريخية، تبرز الحاجة الملحة إلى إعادة الاعتبار للرواية الشفهية بوصفها مصدراً معرفياً أصيلاً، لا مجرد ملحق ثانوي للتاريخ الرسمي، إذ لا يمكن اعتبار الرواية الشفهية مجرد حكايات يتناقلها الرواة عبر الأجيال، فهي الذاكرة الحية الدينامية للمجتمعات، وهي الوعاء الذي يحفظ الهوية الجماعية للشعوب، ويوثق تاريخ الأماكن والسكان والعشائر بطريقة لا تستطيع الوثائق الجافة أن تحققها.

إن السؤال الفلسفي الذي يطرح نفسه هنا: هل التاريخ هو ما يُكتب فقط، أم هو أيضاً ما يُروى ويُحكى؟ وهل يمكن للذاكرة الجماعية الشفهية أن تكون مصدراً موثوقاً للحقيقة التاريخية في مواجهة السلطة المعرفية للنص المكتوب؟

يذهب موريس هالبفاكس عالم الاجتماع الفرنسي في نظريته حول الذاكرة الجماعية إلى أن الذاكرة ليست ملكاً فردياً خالصاً، وإنما هي بناء اجتماعي يتشكل عبر التفاعلات الجماعية والسرديات المشتركة، فالذاكرة الجماعية، بحسب هالبفاكس، هي التي تمنح المجتمع هويته الزمنية، وتربط الحاضر بالماضي عبر سلسلة متصلة من الروايات والحكايات التي تُنقل شفهياً من جيل إلى جيل.

في هذا السياق، تصبح الرواية الشفهية فعلًا أنطولوجيا، أي فعلًا يؤسس للوجود الاجتماعي ويحدد معالمه، فالمجتمع الذي يفقد ذاكرته الشفهية يفقد جزءا أساسيا من وجوده؛ لأن الهوية الجماعية ليست مجرد مجموعة من الوثائق المكتوبة، بل هي تجربة حية تُعاش وتُروى وتُعاد صياغتها باستمرار عبر السرد الشفهي.

من الناحية الإبستمولوجية، تثير الرواية الشفهية إشكالية فلسفية عميقة تتعلق بمصداقية المعرفة ومصادرها؛ فالتاريخ الرسمي، الذي يعتمد على الوثائق المكتوبة، يُنظر إليه غالبًا على أنه الحقيقة الموضوعية، بينما تُعتبر الرواية الشفهية ذاتية وعرضة للتحريف والنسيان، لكن هذا التصنيف الثنائي يتجاهل حقيقة أساسية: لا وجود لتاريخ محايد تماماً.

فالوثائق المكتوبة نفسها ليست بريئة؛ إذ يتم إنتاجها في سياقات سياسية واجتماعية محددة، وهي تعكس دائماً منظور الطرف الذي يكتبها، والذي غالباً ما يكون الطرف المنتصر أو السلطة الحاكمة، أما الرواية الشفهية، فهي تمثل صوت المهمشين والمنسيين، وصوت الناس العاديين الذين لم تُكتب قصصهم في السجلات الرسمية، وهنا يكمن جوهر قيمتها المعرفية: إنها تكمل التاريخ الرسمي ولا تلغيه.

وفي هذا السياق يؤكد المؤرخ الإيطالي أليساندرو بورتيلي، أحد رواد التاريخ الشفهي، أن الرواية الشفهية هي مصدر رئيسي للمعلومات، إضافة إلى أنها مصدر للمعاني والتجارب الإنسانية، فالحكاية الشفهية تحمل في طياتها مشاعر الراوي وانفعالاته، وهي تعكس كيف عاش الناس التاريخ، وليس فقط كيف حدث.

أما المكان فهو نص مفتوح يُكتب ويُعاد كتابته عبر الروايات الشفهية التي ينسجها السكان عنه، فتاريخ المكان وإن كان تسلسلا زمنيا للأحداث، فهو أيضًا تراكم من الحكايات التي تمنحه معناه وهويته.

وفي هذا السياق يميز الفيلسوف الفرنسي ميشيل دو سيرتو، في كتابه اختراع اليومي (بين المكان والفضاء، حيث يقول أن المكان هو البنية الجغرافية الثابتة، أما الفضاء فهو ما يُنتَج عبر ممارسات الناس وحكاياتهم، فالرواية الشفهية إذاً هي التي تحول المكان الجامد إلى فضاء حي مليء بالذكريات والمعاني.

فعندما يحكي شيخ القبيلة عن معركة وقعت في وادٍ معين، أو عندما تروي امرأة عجوز قصة بئر قديمة في القرية، فإنهما يقدمان في الظاهر معلومات تاريخية، ولكن في العمق فإنهما يمنحان المكان هويته السردية، وبالتالي تصبح الرواية الشفهية أرشيفاً حياً للمكان، يحفظ ذاكرته ويمنعها من الاندثار.

ومن أهم وظائف الرواية الشفهية حفظ أسماء الأماكن ومعانيها، فالأسماء الجغرافية غالباً تأتي محملة بالدلالات التاريخية والثقافية التي لا يمكن فهمها إلا من خلال الرواية الشفهية؛ فعلى سبيل المثال، اسم وادي الغفر قد يشير إلى حادثة قديمة حُكيت عبر الأجيال لكنها لم تصلنا.

كما يؤكد يي فو توان المختص بالجغرافية الثقافية، في كتابه الفضاء والمكان، أن الإحساس بالمكان لا ينبع فقط من الخصائص الفيزيائية، وإنما من القصص والتجارب المرتبطة به، فالرواية الشفهية في هذا الجانب هي التي تمنح المكان روحه وتجعله جزءاً من الهوية الجماعية للمجتمع.

وفي المجتمعات القبلية والعشائرية، تكتسب الرواية الشفهية أهمية مضاعفة، إذ تُعتبر المصدر الرئيسي لتوثيق الأنساب وتاريخ العشائر؛ فالشجرة العائلية تمثل سردية متكاملة تُروى وتُعاد صياغتها في المجالس والمناسبات الاجتماعية.

والنسّابة والرواة في هذه المجتمعات، هم حراس الذاكرة الجماعية الذين يحفظون شرف العشيرة وتاريخها؛ ومن خلال الرواية الشفهية، يتم توثيق الأحلاف والنزاعات، والهجرات والاستقرار، والبطولات والمآثر، بطريقة تمنح العشيرة هويتها الخاصة وتميزها عن غيرها.

وفي هذا السياق يرى الأنثروبولوجي الأمريكي كليفورد غيرتز أن الثقافة هي نظام من المعاني المشتركة يُعبّر عنها من خلال الرموز والسرديات، والرواية الشفهية في المجتمعات العشائرية، هي الوسيلة الأساسية لنقل هذه المعاني وترسيخ الهوية الثقافية للمجموعة.

والرواية الشفهية لا تقتصر على توثيق الأحداث الكبرى فقط، بل تشمل أيضاً الأحداث اليومية والعادية التي قد تُهمَل في التاريخ الرسمي، فكيف عاش الناس في فترة معينة؟ وما هي عاداتهم وتقاليدهم؟ وكيف كانت علاقاتهم الاجتماعية؟ هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال الرواية الشفهية.

وتؤكد المؤرخة الأمريكية أليس كيسلر-هاري أن التاريخ الشفهي يمنح صوتا للفئات المهمشة، وخاصة النساء والعمال والأقليات، الذين لم يُسمح لهم بالكتابة في السجلات الرسمية؛ فالرواية الشفهية، بهذا التوصيف هي تاريخ من الأسفل، تاريخ يُكتب بلسان الناس العاديين.

وإذا ما تطرقنا إلى الرواية الشفهية والسردية الوطنية، فإنه يمكن القول أن السردية الوطنية هي بناء رمزي يهدف إلى خلق وعي جماعي بالانتماء إلى وطن واحد، حيث تلعب والرواية الشفهية دوراً محورياً في تشكيل هذه السردية، إذ تنقل الذاكرة الجماعية من جيل إلى جيل، وتمنح الأحداث التاريخية معناها الرمزي.

وفي هذا السياق يتحدث الألماني يورغن هابرماس عن الفضاء العمومي بوصفه مجالاً للنقاش والتواصل الاجتماعي الذي يُشكل الوعي الجماعي، والرواية الشفهية في المجتمعات التقليدية، تمثل أحد أشكال هذا الفضاء العمومي، حيث يتم تداول القصص والحكايات التي تعزز الانتماء الوطني.

فعندما يُحكى عن بطولات الأجداد في الدفاع عن الوطن، أو عن معاناة الشعب في فترات الاستعمار، فإن هذه الروايات لا تقدم معلومات تاريخية فحسب، وإنما تخلق روابط عاطفية بين الأفراد ووطنهم، وتعزز الشعور بالهوية الوطنية المشتركة.

ومن المهم الإشارة إلى أن الرواية الشفهية تسمح بـتعددية السرديات، بعكس التاريخ الرسمي الذي غالباً ما يفرض سردية واحدة من الأعلى، فكل عشيرة، وكل منطقة، وكل مجموعة اجتماعية، لها روايتها الخاصة التي تعكس تجربتها التاريخية الفريدة، وقد تتعدد الروايات بالعشيرة الواحدة نظرا لطبيعة الأحداث والتحولات التي مرت بها العشيرة.

وفي هذا السياق يرى الفيلسوف الفرنسي جان- فرانسوا ليوتار، في نقده للسرديات الكبرى، أن الحقيقة ليست واحدة ومطلقة، بل متعددة ومتشظية عبر السرديات الصغرى التي يرويها الناس العاديون، وبهذا المعنى يمكن القول أن الرواية الشفهية هي سردية صغرى تقاوم الاحتكار السلطوي للحقيقة التاريخية، وتؤكد على تعددية الأصوات والتجارب.

ومن أبرز التحديات التي تواجه الرواية الشفهية كمصدر تاريخي هي مسألة المصداقية، فالذاكرة البشرية عرضة للنسيان والتحريف، والراوي قد يضيف أو يحذف أو يبالغ في سرده، لكن هذا لا يعني أن الرواية الشفهية غير موثوقة، بل يعني أنها تتطلب منهجية نقدية في التعامل معها.

وفي هذا السياق يؤكد الباحث البريطاني بول طومسون، في كتابه صوت الماضي أن التاريخ الشفوي ليس أقل موضوعية من التاريخ المكتوب، لأن كلاهما يتأثر بالسياق الاجتماعي والسياسي، لكن المهم هو أن نتعامل مع الرواية الشفهية بنفس المنهجية النقدية التي نتعامل بها مع الوثائق المكتوبة.

والتحدي الآخر يتعلق بـحفظ الرواية الشفهية من الاندثار، فمع رحيل الرواة الكبار، تموت معهم ذاكرة كاملة قد لا تُسترجع أبداً، لهذا تبرز الحاجة إلى مشاريع أرشفة تعتمد على التسجيل الصوتي والمرئي للروايات الشفهية، مع الحفاظ على سياقها الثقافي والاجتماعي.

والخلاصة أن الرواية الشفهية ليست بديلاً عن التاريخ المكتوب، بل هي مكمل ضروري له، فهي الصوت الذي يمنح الحياة للأحداث الجامدة، والذي يربط الماضي بالحاضر عبر سلسلة متصلة من الحكايات، وإن إعادة الاعتبار للرواية الشفهية يعني الاعتراف بأن التاريخ ليس فقط ما يُكتب في الكتب، بل ما يُروى في المجالس أيضًا، وما يُحكى حول النار، وما يُنقل من جيل إلى جيل، إنه يعني أن نستمع إلى أصوات المهمشين، وأن نمنح الذاكرة الشعبية مكانتها الحقيقية في كتابة التاريخ.

وفي الأردن، كما في كل بلدان العالم العربي، تشكل الرواية الشفهية جزءًا لا يتجزأ من السردية الوطنية، إنها التي توثق تاريخ البدو والقرى، وتحكي عن الهجرات والاستقرار، وتحفظ ذاكرة الكفاح الوطني، إن الحفاظ على هذه الروايات وتوثيقها واجب وطني يضمن أن ذاكرة الأجداد لن تموت، وأن هوية الأجيال القادمة ستبقى متصلة بجذورها.

مدار الساعة ـ