لطالما شكل التوفيق بين مبدأ الحريات العامة وفرض الأمن معضلة في معظم دول العالم، فإما أن تطغى قوة الدولة على حرية الإنسان، أو تتوسع الحرية بلا ضوابط حتى تهدد أمن المجتمع ، غير أن الأردن قدم نموذجا مختلفا تماما واستطاع أن يوازن بين قوة الدولة وبين كرامة المواطن وأن يوازن بين صرامة القانون وبين رحابة الحرية ليصبح فعلا بلد الحريات وبلد الأمن والأمان في آن واحد.
منذ نشأة الدولة الأردنية تميزت قيادتها السياسية برؤية واعية أدركت أن قوة الدولة لا تقاس بقبضتها الحديدية بل بقدرتها على حماية الإنسان واحترام حقوقه، ولهذا بقي الأردن عبر تاريخه دولة مستقرة في محيط مضطرب، دولة تقف على أرضية صلبة رغم ما شهدته المنطقة من حروب وصراعات وانقسامات، منذ تعريب قيادة الجيش عام 1956 إلى عبور الأزمات الإقليمية المتلاحقة رسخ الأردن نهجا قائما على الشرعية والاعتدال وسيادة القانون. إن العقيدة الأمنية الأردنية ليست مجرد تعليمات أو إجراءات بل فلسفة راسخة تؤمن بأن الأمن لخدمة المواطن لا للهيمنة عليه، وأن الأمن في الأردن ليس وسيلة للقمع بل ضمانة لحرية الفرد وحياته وكرامته، ولهذا نجحت الدولة في مواجهة أخطر التحديات التي ضربت المنطقة، سواء الإرهاب أو الجريمة المنظمة أو المخدرات أو انتشار السلاح، وبرغم قسوة هذه التحديات ظل النهج الأردني ثابتا بحزم لا يتردد في مواجهة الخطر الحقيقي، ومرونة تكفل حرية التعبير وتحمي الرأي ما دام ضمن القانون.وأنا ـ بحكم عملي كمحام يقف يوميا داخل المحاكم النظامية أو الخاصة ويعاين بواقعية تفاصيل القضايا وملفات التحقيق ـ أرى هذا التوازن بأم عيني، ففي القضايا المتعلقة بالإرهاب أو تجارة المخدرات أو الجرائم الخطيرة تبسط الأجهزة الأمنية قوتها بكل صرامة ومهنية وتعمل على تفكيك الشبكات وملاحقة المجرمين وتجفيف منابع الخطر، وكل إجراء للأجهزة الامنية يكون مضبوطا بأصوله القانونية، وكل خطوة تهدف أولا وآخرا لحماية المجتمع لا لإرهاب الناس، حيث أني لم ألمس يوما استهدافا تعسفيا أو قرارا يبتعد عن غاية الأمن الوطني. قد تختلف الصورة تماما في قضايا الرأي والتعبير، ففيها يظهر الوجه الآخر للعقيدة الأمنية الأردنية، وجه الإدارة الهادئة والاحتواء الحكيم واحترام حرية الإنسان، وهذه القضايا التي تثار في هذا السياق تدار بروح القانون لا بروح القوة، وتعالج وفق نهج يتجنب التصعيد ويعلي قيمة الحوار، ويضمن حق المواطن في التعبير ضمن حدود المسؤولية، حيث لا تقمع كلمة ولا يصادر رأي إلا إذا تحول إلى اعتداء أو إساءة تمس الدولة أو حقوق الآخرين، وهذا التمييز الدقيق هو ما يجعل الأردن مختلفا عن كثير من الدول؛ فهو يشتد على من يهدد المجتمع ويتساهل مع من يختلف بالرأي. هذا النموذج الأردني المبني على التوازن بين أمن الدولة وكرامة الفرد لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة وعي سياسي عميق وتجربة وطنية طويلة ومؤسسات محترفة تتصرف بميزان دقيق بين الواجب والحق، فالأمن في الأردن ليس ترفا بل ضرورة، والحرية ليست منة بل حق، وقد استطاعت الدولة أن تجمعهما دون أن يطغى أحدهما على الآخر، ولهذا كان الأردن وسيبقى نموذجا استثنائيا في المنطقة، دولة تحمي شعبها دون أن تصادر صوته، وتصون حرية الإنسان دون أن تفرط بأمن المجتمع.هذه هي المعادلة التي جعلت الأردن بلد الأمن والأمان وبلد الحريات وموطنا لا تزال فيه كرامة الإنسان جزء من أمن الدولة نفسها لا شيئا منفصلا عنها، وفي زمن تتصارع فيه الأمم بين الحرية والفوضى أو الأمن والقيود يقدم الأردن معادلة ثالثة أكثر نضجا واتزانا وهي أمن الدولة وكرامة الفرد معا دون تناقض ودون تنازل.العبادي يكتب: الأمن في الأردن ليس ترفا بل ضرورة.. والحرية فيه ليست منة بل حق
المحامي محمد زهير العبادي
العبادي يكتب: الأمن في الأردن ليس ترفا بل ضرورة.. والحرية فيه ليست منة بل حق
مدار الساعة ـ