مع كل أزمة واجهت بلدنا، وما أكثرها، كان استدعاء منطق الدولة هو الإجابة الوحيدة التي قدمناها للخروج من أزماتنا وتجاوز ارتداداتها، يمكن أن نتصور هنا ما الذي يمكن أن يحدث لو لم تكن هذه الإجابة حاضرة وبقوة، فغياب منطق الدولة– كما يحصل في كثير من بلداننا العربية التي تزعزعت فيها ثقة الناس بالدولة وتهشمت بالتالي هيبتها وقدرتها على ضبط إيقاع المجتمع- هذا الغياب يعني بالضرورة نتيجة واحدة، وهي «الفشل» على كافة المستويات، وهو ما يتناقض، تاريخياً وسياسياً، مع تجربة الأردنيين وطموحاتهم في بناء دولتهم، والحفاظ على نظامها السياسي، والاحتكام للقيم والمبادئ التي ضمنت استمرار وجود الدولة واستقرارها، وعافية المجتمع أيضاً.
الانتصار لمنطق الدولة يستند في الأساس الى قدرة الدولة على خلق حالة من التوافق والانسجام بينها وبين مواطنيها، وكل من يقيم فيها، وبينها وبين محيطها الإقليمي والدولي، وهي بالتالي لا يمكن أن تستقوي على أيّ من مكوناتها، أو أن تتعامل مع المجتمع بشكل عام وفق «مساطر» عوجاء تولد فيه الإحساس بالانقسام أو الانتقام، كما أنها تستثمر في منجزات هذا المجتمع، وتعيد «إنتاج» نخبه الحقيقية وكفاءاته للانخراط في المشروع الوطني الذي تتبناه، بحيث تصبح مصلحة الدولة العليا عابرة لمصالح هؤلاء، ومتحررة أيضاً من خلافاتهم وصراعاتهم السياسية.في مجالنا السياسي والاجتماعي يتكرر دائماً سؤال: أين الدولة؟ وهو سؤال وجيه وضروري، وإن كان يبدو محرجاً أحياناً، لكن بعد أكثر من مئة عام من تأسيس الدولة الأردنية، ومع نظرة صادقة وفاحصة لما يحدث في كثير من البلدان التي تتعرض فيها «الدولة» لمصير مجهول، وبالمقارنة مع «الاستثناء» الأردني في الحفاظ على الدولة كمنجز وطني، يجب علينا -كأردنيين- أن نتصارح في الإجابة على ما نريده، وما يفترض علينا أن نفعله، ليس فقط لتحديث منظومتنا السياسية والاقتصادية والإدارية، وهذا مهم، وإنما لاستعادة وترسيخ منطق الدولة وروحها وحضورها وهيبتها وقوتها، أشرت في مقالات سابقة إلى «المواطنة» الحقة المستندة إلى موازين العدالة كرافعة أساسية لبناء الدولة، وأضيف هنا بأن الخروج من «الثنائيات» مهما كان نوعها، سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً، هو الرافعة الثانية لترسيخ منطق الدولة وسيادتها على كل ما يفرزه المجتمع من «أنداد» لها، يستهدفون مقايضتها أو الاستقواء عليها، تحت أي لافتة أو عنوان.ثمة رافعة ثالثة وهي أن الدولة بحاجة إلى «رجالات» أو طبقة سياسية تمثلها وتعكس منطقها في التعامل مع الناس، ورجالات الدولة يفترض أن يكونوا حاضرين وفاعلين، سواء أكانوا يعملون في مفاصلها، أو يجلسون على «مقاعد» التقاعد، وتجديدهم مسألة ضرورية، كما أن احترامهم واجب، والأصل أن يخرجوا من رحم المجتمع، وأن يكونوا عوناً له لا عبئاً عليه.تبقى رافعة رابعة وهي ترسيخ ثقافة «الانتماء» للدولة، والاعتزاز بإنجازاتها والامتثال لمقرراتها، والانحياز لخياراتها، وهذه الثقافة لا يمكن بناؤها- فقط- بالأناشيد والأغاني التي تخاطب الوجدان، وإنما أيضاً باحترام المواطن، وتعزيز منظومته الدينية والتعليمية والقيمية، وتوفير ما يستحقه من عيش وكرامة، وإقناعه بأنه شريك أصيل في الغُنم والغُرم معاً.الإجابة عن سؤال: أين الدولة؟ تعتمد على فهم هذه «الروافع» وغيرها، ثم التدقيق في حضورها وفاعليتها، وهذه مهمة أتركها للقارئ الكريم، ولمن يهمه الأمر.ماذا يعني الانتصار لمنطق الدولة؟
مدار الساعة (الدستور الأردنية) ـ