أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

سالم يكتب: وهم القوة العربية


عمار محمد سالم

سالم يكتب: وهم القوة العربية

مدار الساعة ـ

وهم القوة العربية لم يكن يومًا مجرد حالة سياسية عابرة، بل بنية فكرية وثقافية وإعلامية ترسخت عبر عقود. فمنذ منتصف القرن العشرين، تبيّن أن القوة الحقيقية لا تُبنى بالشعارات ولا بالاستعراض، بل بالمؤسسات والاقتصاد والمعرفة. وعندما غابت هذه العناصر، تحوّل خطاب القوة إلى وهم جميل لكنه فارغ من المضمون. وبينما كانت الشعوب العربية تستنزفها الهزائم والاحتلالات والأزمات، اختارت الأنظمة تحويل المأساة إلى دعاية، فتحول الخطاب القومي من مشروع للتحرر والتنمية إلى أداة بقاء للسلطة. صارت الإذاعات والصحف والتلفزيونات الرسمية تكرر وعود الانتصارات القادمة دون أي خطة أو مؤسسة قادرة على التنفيذ، حتى أصبحت الشعارات الكبرى مثل “الوحدة العربية” و“التحرير الشامل” بدائل عن العمل الفعلي، وكأن الكاريزما وحدها قادرة على بناء الدول. وهكذا انتظرت الأمة من الزعيم أن يحقق بخطاب واحد ما لا تستطيعه عشرات المؤسسات.

وفي قراءة للنماذج العربية، نرى كيف تكرس هذا الوهم بصورة مختلفة في كل بلد. في لبنان، الدولة الضعيفة منذ 1982 وتعدديتها المذهبية والسياسية كانت أرضًا خصبة لخطاب قوة هشّ، مليء بالوعود وخال من التنفيذ. الحروب الداخلية والأزمات المتلاحقة كشفت أن ما سُمّي بالقوة اللبنانية لم يكن سوى محاولة لتغليف الانقسامات، فيما حافظ حزب الله على خطاب هادئ ذي عمق سياسي وصمت استراتيجي وقدرة تنفيذية داخلية. توجيه بياناته للرؤساء الثلاثة وللشعب، لا لجمهوره فقط، كان رسالة بأن المقاومة مكوّن لا يمكن تجاوزه وأن قرارها جزء من مسؤولية وطنية واجهت الداخل والخارج معًا.

أما سوريا، فبعد الاستقلال حاولت بناء مؤسسات حقيقية، لكن السلطة العسكرية حوّلتها إلى أدوات لحفظ النظام. تحوّل النشيد والخطاب القومي والحرب ضد إسرائيل إلى شعارات إعلامية، بينما كانت أجهزة الأمن تقسم الدولة، والشعب يواجه الفقر والانقسام.

وفي العراق، من 1991 حتى 2003، كان الوهم أكثر وضوحًا. الخطاب ظل يمجّد القوة، بينما الحرب دمّرت الجيوش، وانهار الاقتصاد، وتفكك المجتمع. من الملكية إلى الجمهورية ثم عهد صدام، ظل مركز القوة هو الزعيم لا الدولة، وكانت النتائج كارثية في كل حرب خاضها العراق. ومع ذلك استمرت الأنظمة في بيع صورة الانتصار حتى حين كانت المدن تتساقط واحدة تلو الأخرى.

أما القضية الفلسطينية، فقد كانت نقطة الانكشاف الأولى. لا نسميها هزيمة فلسطين، بل سقوط الإدراك العربي الذي اختار النشيد بدل التحليل والرموز بدل المؤسسات. لولا السابع من أكتوبر لما عادت القضية للواجهة؛ إذ كانت “صفقة القرن” تقترب، والمستوطنون يعربدون، والمقاومة تخوض الحروب وحدها بينما الأنظمة تكتفي بالاستنكار. كنا نقول لأنفسنا إن الصمت استراتيجي وإن الجيوش العربية تستعد، لكن تبين أن الاستراتيجية الوحيدة هي الانتظار، وأن الجيوش تُهيأ أحيانًا لخدمة الاحتلال أكثر مما تُعدّ لتحرير الأرض.

نكسة 1967 كانت لحظة الحقيقة. أربعة جيوش تنهار في أيام، وكان المفترض أن تكون بداية إصلاح شامل، لكنها تحولت إلى بداية صناعة وهم أكبر. بدل مواجهة الأخطاء، اكتفى الخطاب العربي بصياغة رواية المؤامرة والخيانة، وعادت آلة الدعاية لتجمّل الفشل وتغطي على العجز.

وهنا يظهر السؤال الأبدي: هل المشكلة في الاستعمار أم في الذات العربية؟ الاستعمار جزء من المشكلة، لكنه ليس السبب الأكبر. الخطأ الحقيقي كان في الذات التي استبدلت المشاريع بالخطابات والمؤسسات بالزعيم والعمل بالمسرحية. والأدهى أن بعض الدول العربية بدأت تستشير المستعمر لينهضها من جديد، وهو بطبيعة الحال لم يفوت الفرصة لفرض شروطه وهيمنته.

القوة العسكرية العربية كانت أوضح صور الوهم. فالجيوش الضخمة والعتاد الكبير لم يُترجم يومًا إلى قوة حقيقية. من 1956 إلى 1967، ثم 1982 في لبنان، وصولًا إلى العراق في 1991 و2003، أثبتت الجيوش العربية أنها أقوى في الاستعراض منها في الميدان. كانت الأرقام تُبهر، لكن الواقع يكشف ضعف التدريب وفساد القيادة وغياب التخطيط.

أما الاقتصاد، فهو معيار القوة الغائب الأكبر. فمعظم الدول العربية لم تبنِ اقتصادًا قادرًا على دعم القوة العسكرية أو السياسية. لبنان يعتمد على الخدمات والمصارف، سوريا والعراق اقتصاد مركزي بيد النظام، وفلسطين محاصرة باحتلال يتحكم بالاقتصاد والمساعدات والتحويلات. ومع اقتصاد هش لا يمكن الحديث عن قوة حقيقية مهما علت الشعارات.

الإعلام العربي واصل دوره في صناعة الواقع البديل: تضخيم الانتصارات، تبرير الهزائم، واختلاق بطولات وهمية. لم يعد الإعلام أداة توعية، بل أداة بقاء تساعد الأنظمة على الاستمرار مهما كان الواقع مؤلمًا.

والنتيجة أن القوة العربية على الأرض أقل بكثير من الصورة التي يرسمها الخطاب والإعلام. الوهم أصبح أهم من الواقع، والمواطن العربي تعلم أن يتعايش مع الهزيمة كأنها انتصار معنوي. وإذا أرادت الدول العربية أن تمتلك قوة حقيقية، فعليها أن تعود إلى الأساس: بناء مؤسسات قوية، تنمية اقتصاد حقيقي، تطوير جيوش محترفة، وإحياء التعليم النقدي، وإطلاق إعلام يخدم الحقيقة لا السلطة. فالقوة لا تُبنى بالكلام ولا بالشعارات، بل بالعمل والتخطيط والمثابرة على الأرض.

مدار الساعة ـ