في خبر صادم نزل قبل قليل، ضبطت إدارة السير فتى يبلغ من العمر 16 عامًا يقود حافلة عمومية على أحد خطوط العاصمة عمّان.
قد يمرّ الخبر على البعض باعتباره مجرد مخالفة فردية، لكنه في الحقيقة صفعة مدوّية على وجهنا جميعا وألم بالقلوب، ودليل جديد على ما وصل إليه قطاع النقل العام من فوضى وترهل وعشوائية لم تعد تخفى على أحد، وتعيق التنمية في الوطن. هذه ليست قصة فتى فقط، بل قصة حكومات متعاقبة سمحت أن يصل قطاع أساسي بهذا الحجم إلى هذا المستوى من الانفلات، وكأن النقل العام ليس شريانًا للتنمية، ولا ركيزة للسياحة، ولا واجهة حضارية للمدن، ولا حاجة يومية لملايين المواطنين.عندما يقود فتى حافلة… فهذه ليست مخالفة بل إعلان فشل:فكيف يصل السائق، وبالكاد طفل، لأن يجد نفسه خلف مقود حافلة؟أين الشركة؟ أين المالك؟ أين التفتيش؟ أين الرقابة اليومية؟ أين الترخيص؟كيف يخرج أسطول النقل العمومي صباحًا إلى الشوارع دون نظام يضمن الحدّ الأدنى من المهنية والسلامة؟إن ما جرى ليس حادثًا عابرًا، بل خلاصة سلسلة طويلة من التقصير:شركات تُدار بذهنيّة الربح السريع على حساب السلامة.غياب نظم التتبع والرقابة الفورية.ضعف تفتيش وزارة النقل وهيئة تنظيم قطاع النقل البري.قصور التشريعات في الردع والرقابة.غياب الحوكمة المؤسسية عن القطاع.نقل عام مشوّه… يدفع الناس نحو السيارات، فيخنق المدن ويستنزف الرواتبليس مستغربًا أن 90% من الأردنيين يفضّلون السيارة الخاصة حتى لو كلفتهم نصف الراتب.فالناس لا تترك النقل العام لأنه خيار، بل لأنها مضطرة:لا التزام بالمواعيد، لا انضباط بالخطوط، لا راحة، لا أمن، لا مستوى خدمة مقبول، لا نظام تشغيل حديث، ولا بيئة تجذب المستخدم.وحين يهرب الناس من نقل عام مترهل، يحدث التالي:1. شوارع مكتظة وزمن ضائعالسيارات أصبحت تملأ كل الفراغات، والزمن المستهلك في الازدحامات يضيع من حياة الناس ومن إنتاجيتهم.2. ارتفاع استهلاك الوقود… والراتب يذوبأصبح المواطن يدفع ثلث دخله على البنزين، فقط لأنه لا يجد وسيلة نقل عامة تحترم إنسانيته.3. سياحة تنفر من الفوضىكيف نقنع السائح بأن الأردن بلد منظم ومريح بينما المواصلات العامة تُدار بعقلية الخمسينيات؟السائح الذي ينتظر باصًا نصف ساعة ثم يأتيه بلا تكييف ولا التزام ولا نظافة… لن يعود.4. استثمار يبتعدأي شركة أو مؤسسة عالمية ستقيم وزنًا لبلد لا يستطيع موظفوها التنقل فيه إلا بالسيارات الخاصة؟النقل العام ليس رفاهية… إنه شرط التنمية.5. تلوث وضجيج وصحة تتدهورالازدحام يعني المزيد من الانبعاثات، والمزيد من الأمراض، والمزيد من الكلف الصحية على الدولة.أمام حادثة اليوم… من يتحمل المسؤولية؟قد تتم محاسبة السائق الصغير ومن سلّمه المركبة، لكن الحقيقة أن المسؤولية لا تبدأ ولا تنتهي هنا.المنظومة كلها مسؤولة:وزارة النقلهيئة تنظيم قطاع النقلأمانة عمّان والبلدياتالشركات المشغلةالتشريعات القديمةضعف الحوكمةغياب الرؤية الوطنية للنقل:ما هي القيمة التي تُمنح للنقل العام في منظومة نقل تسمح لطفل بأن يختبر قيادة حافلة مليئة بالأرواح؟هذا يعكس حجم الفراغ الإداري في هذا القطاع.الحدث صرخة… لا بد أن تُسمع:حادثة اليوم يجب أن تكون نقطة تحوّل، لا خبرًا يُنسى بعد يومين.يجب أن تدفع الحكومة إلى:إعادة هيكلة شاملة لقطاع النقل العام.رقابة صارمة على الشركات والسائقين.إدخال التكنولوجيا والتتبع الفوري في جميع الحافلات.إطلاق نظام تشغيل محترف بمواصفات عالمية.تطوير أسطول حديث، آمن، مريح، وملتزم.تبني خطة وطنية تُعامل النقل كملف أمني واقتصادي وتنموي.النقل ليس رفاهية… بل كرامة وتنمية:حين يقود فتى في السادسة عشرة حافلة عمومية في قلب العاصمة، فهذه ليست قصة للتندر بل قصة تبكي على حاضر المدينة ومستقبل البلد.النقل العام ليس مقعدًا ومقودًا ومحطة…النقل العام مرآة دولة.وحتى تعترف الحكومة أن هذا الملف مصيري، سيبقى الأردن يخسر:سياحًا… فرصًا… استثمارات… وقتًا… وصحة… وراحة…وسيظل المواطن يدفع ثمن فوضى لم يصنعها، وثمن بنزين يلتهم دخله، وثمن ازدحام يلتهم حياته.الفرجات يكتب: فتى يقود حافلة عمومية.. مرآة لنقل عام يعيق التنمية في البلد
مدار الساعة ـ