أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الحسبان يكتب: لماذا يحتاج الاقتصاد الأردني إلى مزيجٍ متوازن بين الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية؟


فهد الحسبان

الحسبان يكتب: لماذا يحتاج الاقتصاد الأردني إلى مزيجٍ متوازن بين الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية؟

مدار الساعة ـ

في اللحظة السياسية والاقتصادية التي يعيشها الأردن اليوم، يتجاوز النقاش حدود المدارس الاقتصادية التقليدية، ليدخل في قلب السؤال الجوهري: كيف يمكن بناء نموذج اقتصادي قادر على منع الانخفاض، وصناعة النمو، وترميم الثقة السياسية في آن واحد؟ هذا السؤال لا يجيب عنه منهج واحد، ولا يمكن لمدرسة فكرية أن تنفرد بفهم معادلات بلد معقد مثل الأردن، بتركيبته الاجتماعية، وحدوده الجغرافية الضاغطة، وموارده المحدودة، وطموحه المتجدد نحو التحديث. ومن هنا، تبرز الحاجة إلى مقاربة هجينة تجمع بين الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية، مقاربة تحرّر الأسواق بقدر ما تنظمها، وتعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع والاقتصاد بطريقة أكثر عقلانية وواقعية.

فالأردن، بحجمه المحدود وموارده الشحيحة، لا يحتمل اقتصادًا موجَّهًا بالكامل، لأن التجربة أثبتت أن الاقتصاد الذي تقوده الدولة وحدها يصبح بطيئًا، مكلفًا، وعاجزًا عن خلق فرص عمل حقيقية. وفي المقابل، فإن اقتصادًا محررًا بالكامل على الطريقة النيوليبرالية قد يمنح دفعة مؤقتة للنمو وللجاذبية الاستثمارية، لكنه في الأردن يفتح الباب أمام تركّز الثروة، واحتكار الفرص، وتآكل الطبقة الوسطى التي تمثل صمام الاستقرار السياسي والاجتماعي. ومن هنا، يتضح أن الأردن ليس أمامه رفاهية الاختيار بين السوق والدولة؛ بل يحتاج إلى صيغة ثالثة تكسر هذا الاستقطاب الاقتصادي القديم، وتضمن نموًا لا يهدد التماسك الاجتماعي، وعدالة لا تُفلس الدولة.

الليبرالية الاجتماعية، حين تُطبَّق بوعي سياسي، لا تعني رفع يد الدولة عن الاقتصاد، بل تحريره من البيروقراطية والتشوهات التي خنقت الاستثمار لسنوات. هي دعوة لفتح الأسواق دون تحويلها إلى ساحة غير منضبطة، ولتشجيع الريادة والمشروعات الصغيرة دون خلق قلة متنفذة تستفيد من غياب التنظيم. وهي كذلك محاولة لبناء تنافسية حقيقية تتجاوز منظومة الامتيازات التي ورثها الاقتصاد الأردني عبر عقود، وتعيد للقطاع الخاص دوره الطبيعي بوصفه محركًا للنمو بدلاً من كونه مستفيدًا من قربه أو بعده عن السلطة.

أما الديمقراطية الاجتماعية، في نسختها الواقعية التي تناسب بلدًا محدود الموارد، فليست مشروع دولة رفاه واسعة على النمط الاسكندنافي، بل نظام حماية اجتماعية ذكي يوازن بين قدرة الدولة ومسؤوليتها. هي رؤية لتحصين المجتمع من الصدمات الاقتصادية دون خنق السوق، ولتوجيه الدعم نحو الفئات التي تحتاجه بدل الإصرار على نموذج الدعم الشامل الذي استنزف المالية العامة دون أن يوفر العدالة. وهي أيضًا استثمار في الصحة والتعليم والنقل العام بوصفها أعمدة النمو لا كماليات اجتماعية، فالمجتمع غير الآمن اقتصاديًا لا ينتج اقتصادًا آمنًا، والطبقة الوسطى المنهكة لا تستطيع حماية الاستقرار السياسي مهما بلغت قوة مؤسسات الدولة.

هذا المزج بين الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية ليس اجتهادًا اقتصاديًا فقط، بل مشروع سياسي بالمعنى العميق للكلمة، لأن الأردن بلد تتقاطع فيه الشرعية السياسية مع الأداء الاقتصادي، وتتداخل فيه مطالب المجتمع مع ما تسمح به الإمكانات، ويعتمد فيه الاستقرار على التوازن الدقيق بين ما يطلبه المواطن وما تستطيع الدولة تحقيقه. لقد أثبتت التجارب الماضية أن أي إصلاح اقتصادي غير مصحوب بإصلاح اجتماعي ينتج صدامًا، وأن أي توسع اجتماعي غير مصحوب بإصلاح اقتصادي ينتج عجزًا، وكلاهما يضعف الثقة بالدولة. ومن هنا، يصبح المزج ضرورة لإنتاج اقتصاد قادر على النمو دون أن ينفجر اجتماعيًا، وعلى حماية المجتمع دون أن تُشلّ الدولة.

إن النموذج المطلوب اليوم ليس استنساخًا لتجربة خارجية، بل صياغة نموذج أردني خالص، يراعي توازنات المجتمع وتعقيدات البنية الاقتصادية، ويستفيد من مرونة السوق دون أن يسمح لها بابتلاع كل شيء. نموذج يفتح الباب للفرص لكنه يضع سقفًا للطمع، يعزز حرية السوق دون أن يسمح لها بتدمير الأمان الاجتماعي، ويمنح الدولة دورًا قويًا في التنظيم دون العودة إلى ثقل الجهاز البيروقراطي الذي كبّل الاقتصاد لعقود. إن الاقتصاد الأردني بحاجة إلى دولة قوية لا دولة كبيرة، وإلى سوق حرة لا سوق منفلتة، وإلى حماية اجتماعية مستدامة وليست مكلفة، وإلى نظام ضريبي عادل يوسع القاعدة الضريبية التصاعدية بدلاً من زيادة العبء على المتعبين أصلاً.

في المحصلة، لا يحتاج الأردن إلى كتاب اقتصادي جديد، بل إلى فلسفة سياسية اقتصادية تعترف بأن قوة الدولة لا تُقاس بكمّ ما تسيطر عليه، بل بقدرتها على إيجاد بيئة آمنة للنمو؛ وأن قوة السوق لا تُقاس بمدى تحرره من الدولة، بل بقدرته على إنتاج فرص حقيقية لمجتمع يشعر بأنه شريك في العملية الاقتصادية لا مجرد متلقي لنتائجها. والمزج بين الليبرالية الاجتماعية والديمقراطية الاجتماعية هو الطريق الأكثر نضجًا نحو اقتصاد يخلق الفرص ويحمي الإنسان، ويوازن بين كرامة المواطن وقدرة الدولة، ويعيد للسياسة الأردنية معناها الأعمق: خدمة المجتمع، لا إدارة أزماته.

مدار الساعة ـ