يمرّ الأردن بمرحلة سياسية فارقة، تتقدم فيها الدولة بثبات نحو مشروع التحديث السياسي، وتضع الأحزاب في قلب هذا التحول بوصفها الشريك الطبيعي في صياغة المستقبل، فقد أصبحت الحاجة إلى حياة حزبية ناضجة مطلبًا وطنيًا، لا لأنها تعبير عن التعددية فحسب، بل لأنها القادرة على تحويل تطلعات الناس إلى برامج، وبرامجهم إلى سياسات، وسياسات الدولة إلى أثر ملموس في الواقع، غير أنّ هذا الطموح الكبير يصطدم في جزء منه، بإشكاليات داخلية لا يمكن تجاهلها، أبرزها الشخصنة التي تسللت إلى بعض الأحزاب وأضعفت حضورها السياسي والجماهيري، إذ تحوّل العمل الحزبي لدى البعض إلى مساحة محدودة تتحرك فيها الأسماء أكثر مما تتحرك الأفكار، وتعلو فيها المصالح الفردية على حساب المصلحة العامة، حتى باتت بعض الأحزاب تُدار بعقلية الفرد الواحد، لا بروح الفريق، مما أفقدها القدرة على النمو والاستمرار وأضعف ثقة الناس بها.
والمشكلة لا تكمن في حداثة التجربة الحزبية وحدها، بل في غياب البناء الداخلي المنظم الذي يمنح الحزب القدرة على تقديم رؤية سياسية متماسكة، فالحزب الذي يرتكز على الظهور الإعلامي أكثر مما يستند إلى التأطير الحقيقي يتحول إلى كيان هش، والحزب الذي يكتفي بالشعارات ولا يمتلك برامج قابلة للتطبيق يصبح عبئًا على الحياة العامة، والحزب الذي يكرر خطابًا لا يتجدد يفقد دوره الطبيعي في تشكيل الوعي الجمعي، وقد زاد الوضع تعقيدًا أن بعض الأحزاب أصبحت واجهات اجتماعية لا منصات سياسية، تتسع في الشكل وتضيق في المضمون، وتتحرك بدافع الحضور لا بدافع التأثير، وتعيش بعض تجاربها على وقع الخلافات الداخلية بدل أن تكون مثالًا للمؤسسية التي تقوم عليها الحياة السياسية الناضجة.ورغم هذا المشهد المتداخل، إلا أن هناك أحزابًا وطنية تعمل بصبر وهدوء لتصحيح المسار، وتبني هياكلها بعيدًا عن الاستعراض، وتستثمر في الكفاءات الشابة، وتتواصل مع المجتمع باعتبارها جزءًا منه لا نقيضًا له، وهذه الأحزاب تمثل الأمل الحقيقي في مرحلة التحديث، لأنها تدرك أن الحزب ليس اسمًا ولا شعارًا، بل مؤسسة بحاجة إلى عمل يومي وتراكم وتجديد، وفي المقابل، فإن الأحزاب التي تعجز عن الانتقال من دائرة الفرد إلى فضاء المؤسسة تبقى محصورة في مربع الدوران حول الذات، وتفقد القدرة على استقطاب الجمهور أو المنافسة في البرامج أو صناعة القيادات.والحياة الحزبية في الأردن لن تنجح دون أن تعيد الأحزاب ترتيب أولوياتها، فتقدم البرنامج على الوجاهة، والفكرة على الشخص، والمصلحة الوطنية على المنافع الضيقة، فالمجتمع لم يعد يبحث عن أحزاب ترفع الصوت دون أثر، بل عن أحزاب تقدم حلولًا واقعية، وتفهم تحديات الاقتصاد، وتستجيب لاحتياجات الشباب، وتعمل بتوازن يحترم الدولة ويدعم مؤسساتها. والأردنيون بطبعهم لا ينجذبون إلى الضجيج، بل إلى من يمتلك رؤية واضحة ومنهجًا متزنًا وقدرة على البناء.إن مستقبل الحياة الحزبية في الأردن لا يزال ممكنًا ومفتوحًا، لكنه يحتاج إلى شجاعة داخلية تعترف بالخلل، وإلى وعي سياسي يرى أن التغيير يبدأ من داخل الأحزاب نفسها، وإلى إرادة وطنية تُدرك أن التحديث ليس مناسبة تُحتفل بها، بل مسارًا طويلًا يحتاج إلى صدق، وانضباط، ومؤسسية، واحترام للعقول قبل كل شيء، فالأردن يستحق أحزابًا بحجم مشروعه الوطني، وأحزابًا تبني ولا تستهلك، وتستمر ولا تتآكل، وتضع الوطن في المقدمة دائمًا.الزعبي يكتب: الأحزاب.. حين يضيع المشروع وتعلو الشخصنة
مدار الساعة ـ