المتابع لتفاصيل مشروع قانون الموازنة لعام 2026 يلمس مدى ضيق الحيّز الماليّ المتاح للحكومة وارتباطِه بالتركيبة الصلبة للنفقات الجارية، إذ أظهرت الأرقام محدوديّة الحركة في الموازنة والضغوط الناجمة عن الالتزامات الدائمة، بحيث إنَّ أيَّ فُسحة تُنفَق على بند ما لن تكون إلّا على حساب عجز الموازنة أو خفض النفقات الرأسمالية.
هذه المعادلة الصعبة تتّضح في الأرقام؛ فالنفقات الجارية المقدّرة لعام 2026 تبلغ نحوَ 11.456 مليار دينار مقابل 10.902 مليار في إعادة تقدير موازنة 2025، بزيادة نسبتها 5.1 %، في حين لا تتجاوز النفقات الرأسمالية 1.6 مليار دينار رغم زيادتها بنسبة 17 % عن العام السابق.وهذه الأرقام تعني أنَّ ما يزيد على ثُلَتي الإنفاق الحكومي يذهب لتغطية مصروفات جارية كالأجور والفوائد والدعم، ولا يتبقّى سوى جزء محدود يُخصَّص للمشاريع التنموية.ويُظهر توزيع الإنفاق سبب انكماش الحيّز الماليّ، فثلاثة بنود فقط تستحوذ على نحو 7.3 مليار دينار، أي ما بين 60 و64 % من إجماليّ النفقات الجارية، إلى جانب ذلك، يُخصَّص نحو 2.260 مليارِ دينار لخدمة الدّين في عام 2026، وعند إضافة هذه الالتزامات إلى مخصّصات الدّعم الاجتماعيّ (170 مليونًا لدعم الخبز والأعلاف، و80 مليونًا لدعم أُسطوانة الغاز، و280 مليونًا للمعونة الوطنية)، يتبقّى جزءٌ محدود يمكن للحكومة توجيهُه للاستثمار أو لتحسين الخدمات.النفقات الرأسمالية هي الأداة الرئيسة لتحفيز النموّ وتنفيذ رؤية التحديث الاقتصاديّ، لكنَّ حجمَها المتواضع يعكس محدوديّة المناورة أمام الالتزامات الجارية، إذ يتضمّن مشروع الموازنة رصد 396 مليون دينار لمشاريع رؤية التحديث الاقتصاديّ، و210 ملايينَ لتنمية وتطوير البلديات، و44 مليونًا للمشاريع المموَّلة من القروض، و573 مليونًا لباقي مشاريع الوزارات.ورغم تزايدِ هذهِ المخصّصاتِ، فإنّها لا تكفي لتغطية احتياجات البنية التحتيّة ومشاريعِ النقلِ والمياه والطاقة التي يُعوَّل عليها لتعزيز النموّ.الهيكل التمويليّ للموازنة يجعل من الصعب تنفيذ إصلاحاتٍ شاملة دون تعزيز الإيرادات أو إعادة هيكلة النفقات، فالمعضلة ليست في رفض زيادة الرواتب أو أيّ بند بعينه، ولا يُنكر حقّ الموظّف في الزيادة، لكن في فهم أنَّ الموازنة الحالية تعاني ضيقًا هيكليًّا، إذ إنَّ أيَّ توسّع في النفقات الجارية يلتهم الحيّز الماليّ ويُقلّص القدرةَ على الاستثمار. وهذا يُفسِّر التشدّد في التأكيد على أنَّ أيَّ زيادة غير مموَّلة ستأتي على حساب العجزِ أو النفقات الرأسمالية، كما أنَّ الالتزام بخفض العجز إلى نحوِ 4.6 % من الناتج المحليّ في عام 2026 يستلزمُ ضبط النفقات الحالية وتحسين تحصيل الإيرادات المحلية.وفي ظلِّ معدّل تضخّم منخفض ومستويات دين مرتفعة، يصبح السبيل الوحيد للخروج من هذا القيد هو رفع معدّلات النموّ من خلال تنفيذ المشاريع الكبرى وتحسين بيئة الاستثمار، بما يُوسِّع القاعدة الضريبية ويمنح الموازنة فُسحة أكبر.في نهاية المطاف، تبقى النفقات الرأسمالية شرطًا لتقدّم الاقتصاد وتمكين برامج الإصلاح، وإذا استمرَّ الإنفاق الجاري على حالته الراهنة، ستظلُّ الموازنة في موقع الدّفاع لا الهجوم.لذا من الضروريّ أن تركّز الحكومة على رفع الإنتاجية وزيادة مشاركة القطاع الخاصّ، لأنَّ كلَّ دينار يُنفَق على بنية تحتيّة أو مشروعٍ إنتاجيٍّ يخلق فرص عمل ويُدرُّ دخلًا مستدامًا.ومن المهمّ أيضًا تعزيز الشفافية ومساءلة الأداء لضمان أن تُستخدَم الأموال العامة بكفاءة.الضغوط المالية في 'موازنة' 2026
مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ