span style=" display: inline ;">ظهرت مفاهيم السيادة والهوية والأمن الوطني نتيجة للثورة الرقمية التي يشهدها العالم، وهي أحد أهم مخرجات التحول الرقمي وأخطرها في الوقت ذاته، إذ أصبحت الهوية الإلكترونية ليست مجرد وسيلة للتعريف بالمواطن، بل بوابة التحكم في الوجود الإنساني داخل الفضاء السيبراني.
كانت الهوية في الماضي وثيقة مادية تثبت الانتماء للدولة، أما اليوم فهي بنية بيانات متعددة الطبقات تُخزَّن وتدار عبر منظومات رقمية تعتمد على تقنيات البلوك تشين (Blockchain) والتشفير المتقدم (Advanced Encryption) والتحقق البيومتري (Biometric Authentication) مثل بصمة الوجه أو بصمة العين أو الصوت.هذا التحول أنتج ما يسمى بـ المواطنة الرقمية (Digital Citizenship)، حيث أصبح المواطن يتفاعل مع الدولة رقمياً من خلال أنظمة موحدة للخدمات الحكومية والتعليم والصحة والمعاملات البنكية وحتى التصويت الانتخابي الإلكتروني.ويُعرف مفهوم الهوية الرقمية السيادية (Sovereign Digital Identity) بأنه منظومة وطنية متقدمة تُجسّد سيادة الدولة في الفضاء الإلكتروني، وتمكّن المواطن من إثبات وجوده الرقمي بأمان تام ضمن بيئة خاضعة للقانون الوطني، تُدار بقدرات تقنية سيبرانية عالية تحفظ خصوصية البيانات وتصون القرار الوطني من التبعية الرقمية لأي جهة خارجية.بالرغم من أن الهويات الرقمية خطوة متقدمة لتطور الدولة الحديثة، إلا أنها تشكل مخاطر أمنية تهدد السيادة الوطنية، كالهجوم على قواعد بيانات الهوية الوطنية التي تتضمن حياة المواطن ومعاملاته وسجلاته، وهذا يجعلها هدفاً رئيسياً لحروب الجيل الخامس والهجمات السيبرانية المتقدمة. لذلك قامت بعض الدول بتبني نماذج حماية لمواجهة هذه التهديدات، وكي تضمن بقاء البيانات تحت حماية وطنية بعيداً عن هيمنة الشركات أو المنصات العابرة للحدود، وتعزز السيادة الرقمية من خلال الاعتماد على ما يلي:١-التخزين اللامركزي للبيانات (Decentralized Storage) باستخدام تقنية البلوك تشين.٢-إدارة الهوية ذاتياً (Self-Sovereign Identity - SSI) ليملك المستخدم السيطرة الكاملة على بياناته.٣-التحقق متعدّد العوامل (Multi-Factor Authentication - MFA) لتعزيز الأمان.٤-تحليل الهوية بالذكاء الاصطناعي (AI Identity Analytics) لاكتشاف أي نشاط غير طبيعي في الوقت الفعلي.لا يمكن اعتبار الهوية الرقمية قضية تقنية فحسب، وإنما قضية سيادة ووعي وكرامة وطنية، فأي جهة تمتلك قاعدة بيانات المواطنين فإنها تمتلك القدرة على التأثير في قراراتهم وسلوكهم واقتصادهم. وهذا يجعل من حماية الهوية الوطنية مسؤولية وطنية مشتركة بين الدولة والمواطن، وهي معركة نتائجها تحدد شكل الدولة الحديثة وموقعها في النظام العالمي الجديد.وتمثل الهويات الرقمية السيادية مزيجاً من التكنولوجيا والسياسة والحقوق، وتعد اختباراً حقيقياً لقدرة الدول على تحقيق التوازن بين التحول الرقمي وحماية الإنسان. وأصبح بناء هوية رقمية آمنة ضرورة وجودية في عصر تتداخل فيه الحدود بين العالم الواقعي والافتراضي. وفي زمنٍ تُختصر فيه كرامة المواطن في بصمة رقمية، تبقى السيادة الرقمية خط الدفاع الأول عن الهوية الوطنية والإنسانية، فلا قيمة للتحول إن لم يكن الإنسان هو محور الأمان ومصدر القرار.وفي الأردن يسير التحول الرقمي مستنداً إلى رؤية جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم لبناء دولة عصرية قائمة على الأمن والمعرفة والابتكار. هذه الرؤية الملكية وضعت الأردن في موقع متقدم إقليمياً، حيث أصبحت الهوية الرقمية الأردنية مشروعاً وطنياً شاملاً يعكس إرادة الدولة في صون السيادة داخل العالم الرقمي، وإقامة بنية تحتية رقمية تُدار بكفاءات أردنية وتخضع لمنظومة تشريعية وطنية تحفظ الخصوصية وتحمي القرار السيادي من أي اختراق أو تبعية رقمية، وتستند إلى معايير حماية دولية مثل ISO/IEC 27001 وNIST Framework.ولقد وجّه جلالته إلى ضرورة تعزيز الأمن السيبراني كأولوية استراتيجية تمسّ الأمن الوطني، مؤكداً أن حماية البيانات والهوية الرقمية للمواطن الأردني هي ركيزة من ركائز السيادة الوطنية.وعلى خطى نهج القائد يسير سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني برؤية شابة واعية تُجسّد روح العصر وتُعمّق مفهوم المواطنة الرقمية المسؤولة، من خلال دعمه للمبادرات الريادية في مجالات الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي وتمكين الشباب. ويساهم سموه من خلال قيادته لجيل التكنولوجيا والمعرفة بترسيخ الأمن الرقمي كامتدادٍ للأمن الوطني، ليؤكد أن السيادة في عصر التقنية لا تُقاس بحجم البيانات فقط، بل بقدرة الدولة على صون هويتها الرقمية وإدارة فضائها الإلكتروني بوعيٍ وحكمة.ونتيجة التكاملية بين رؤية جلالة الملك واهتمام سمو ولي العهد نحو مستقبل رقمي آمن، تتحقق سيادة الأردن الرقمية المصانة بالفعل والإرادة، فالمستقبل لا يُصنع بالسلاح ولا بالثروة، بل بالمعرفة والسيادة على المعلومة. لا بد من بناء هوية رقمية سيادية تُجسّد مفهوم الدولة الذكية التي تحمي مواطنيها في الفضاء الواقعي والافتراضي على حدّ سواء، وتصنع موقعاً سيادياً متقدماً للأردن، قوامه الثقة والوعي والأمن والانتماء.الهويات الرقمية السيادية: الأمن الوطني في عصر المواطنة الافتراضية
مدار الساعة ـ