يبدأ اليوم الاستحقاق الدستوري السنوي بتقديم الحكومة إلى مجلس النواب مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2026، إيذاناً ببدء مناقشة أهم تشريع مالي في الدولة، وهو القانون الذي يرسم ملامح السياسة الاقتصادية للسنة المقبلة ويحدد أولويات الإنفاق العام. وقد استبق عدد من النواب النقاش بالإعلان صراحة أن إقرار الموازنة والتصويت عليها سيكونان معلقين على إدراج زيادة في رواتب الموظفين في القطاع العام، الأمر الذي يثير تساؤلاً حول مدى اتساق هذا الاشتراط مع الإطار الدستوري الناظم للعلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، ومع قواعد الانضباط المالي التي تحكم صياغة الموازنة وإقرارها.
من زاوية تمثيلية، يُفترض بالنائب أن يسعى إلى المطالبة بتحسين الدخول الشهرية لناخبيه في ظل الضغوط المعيشية المتنامية، إلا أن جدية هذه المساعي النبيلة لا تُقاس بارتفاع نبرة الصوت تحت القبة، بل بالتحقق من مدى إمكانية تنفيذها ضمن الحدود الدستورية. فالمزايدة في الخطاب لا تصنع قراراً، ولا تعفي من مسؤولية الالتزام بالنصوص الدستورية التي تحكم الشؤون المالية للدولة.فقد أفرد المشرع الدستوري نصوصا خاصة بإقرار مشروع الموازنة العامة في المادة (112) من الدستور التي تعطي مجلس الأمة الحق في النفقات في فصول الموازنة بما يحقق المصلحة العامة دون أن يكون له سلطة زيادتها بطريق التعديل أو الاقتراح المقدم على حده. والغرض من هذا القيد هو الحفاظ على وحدة السياسة المالية ومنع الفوضى الناتجة عن تعدد مراكز القرار، باعتبار الحكومة مسؤولة دستورياً أمام المجلس عن تنفيذ الموازنة وحسن إدارتها.ولأن النصوص الدستورية لا تُقرأ بمعزل عن الممارسة السياسية، فإن التحدي الحقيقي يكمن في مدى التزام السلطة التشريعية بروح الدستور وهي تمارس رقابتها على المال العام. فبدلاً من الدخول في مسارٍ تصادمي مع الحكومة حول زيادة النفقات في مشروع القانون الذي أقرته، كان الأجدر بالنواب المتحمسين لرفع الرواتب أن يتعاملوا مع الموازنة ضمن أطرها الدستورية، وذلك من خلال ممارسة ضغط مبكر على السلطة التنفيذية لإدراج الزيادة في متن المشروع قبل إحالته إلى المجلس، أو التوصل إلى تفاهمات واضحة تحدد الكلفة ومصادر تمويلها وتدرجها ضمن هيكل الإنفاق المقترح.أما تعليق الإقرار على شرط متأخر بعد إحالة المشروع وخلال المناقشات النيابية، فيصطدم بالنصوص التي تضيق هامش إدخال كلف جديدة على مشروع جاهز، وقد يحول المطلب من مسار تشريعي منضبط إلى موقف سياسي عابر.ومن المهم التذكير بأن العمل النيابي في المجال المالي لا يتوقف عند حدود الإقرار أو الرفض، بل يمتد ليشكل رقابة لاحقة على التنفيذ. فالمسؤولية الدستورية للنائب لا تنتهي عند التصويت على مشروع الموازنة، بل تتجدد مع كل تقرير رقابي أو إنفاق فعلي، بما يجعل من المتابعة والمساءلة الوجه الآخر لممارسة السلطة المالية. فالقيمة الحقيقية للمؤسسة التشريعية لا تظهر في لحظة التصويت، بل في قدرتها على مراقبة التطبيق، والتأكد من عدالة توزيع الموارد وكفاءة إدارة المال العام، ومساءلة الحكومة عند الانحراف أو التقصير. وبهذه الرقابة يستقيم التوازن بين السلطتين، ويتحول الاهتمام بالمطالب الآنية إلى التزامٍ مستمر بحسن إدارة المال العام.وعلى خط موازٍ، أفادت تقارير صحفية بوجود مطالبات نيابية بزيادة مخصصات العضوية التي يتقاضاها النائب شهرياً، وهو المقترح الذي إذا ما ثبت فعلاً يشكل دليلاً على عدم الفهم السليم للمادة (76) من الدستور، التي تنص على أنه إذا جرى تعديل مخصصات أعضاء مجلس الأمة فلا ينفذ التعديل إلا بدءاً من المجلس التالي للمجلس الذي أقره. فالغاية من هذا النص الذي أُقر عام 2022 هي صون النزاهة ومنع المنفعة المباشرة واستغلال المنصب النيابي لتحقيق مصالح مالية شخصية.إن معظم الأصوات النيابية الهاتفة بزيادة رواتب العاملين في القطاع العام، والتي علقت موافقتها على مشروع الموازنة العامة على تحقيق هذا المطلب، تدرك سياسيا أن المشروع سيمر في نهاية المطاف وفق الإجراءات المعتادة، وأن الإلحاح على ربط الإقرار بشرط إنفاقي لا يمتلك المجلس أدوات دستورية لفرضه قد ينقلب إحراجاً، لأن الرأي العام بات أكثر وعيا بالقواعد الدستورية وأقدر على التمييز بين الأداء الجاد وصناعة الانطباعات.ويبقى اللافت أن الاندفاعات النيابية الراهنة تصدر عن مجلسٍ يختلف في تكوينه السياسي عن سابقيه، إذ يضم عدداً أكبر من النواب الحزبيين. والتوقع الشعبي المشروع أن ينعكس هذا التنوع على نهج العمل البرلماني، بانتقاله من الخطابة الفردية إلى البرمجة الحزبية، ومن مطالب اللحظة إلى تخطيط السياسات، ومن الاشتراطات المتأخرة إلى تفاهمات مبكرة تُدمج المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية في صلب مشروع الموازنة منذ مراحله الأولى. فالمسؤولية السياسية هنا لا تقاس بعدد التصريحات تحت القبة، بل بقدرة المجلس على ترجمة وعوده إلى برامج مالية منضبطة تنسجم مع الدستور وتستجيب لحاجات الناس.الموازنة العامة بين مطالب النواب وحدود الدستور
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
الموازنة العامة بين مطالب النواب وحدود الدستور
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ