أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الفلسفة الدستورية في الرد على خطبة العرش


أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة

الفلسفة الدستورية في الرد على خطبة العرش

أ. د. ليث كمال نصراوين
أ. د. ليث كمال نصراوين
أستاذ القانون الدستوري – عميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ

قدّم كل من مجلسي الأعيان والنواب ردهما على خطبة العرش التي ألقاها جلالة الملك في افتتاح الدورة العادية الثانية لمجلس الأمة، حيث جاء هذا الإجراء التزاما بأحكام المادة (79) من الدستور التي تفرض على مجلسي الأمة أن يُقدّما عريضة تتضمن جوابهما على ما جاء في الخطاب الملكي.

ويبقى التساؤل الأبرز حول الحكمة الدستورية من إلزام أعضاء السلطة التشريعية من نوابٍ وأعيانٍ الذين استمعوا إلى خطبة العرش بأن يقدّموا ردَّيْن منفصليْن عليها؛ حيث عالجت الأنظمة الداخلية للمجلسيْن هذا الواجب الدستوري، فأفردت أحكاما خاصة تفرض على المجلس، وبعد انتخاب مكتبه الدائم، أن يختار لجنة من أعضائه لوضع صيغة الرد على خطبة العرش لرفعها إلى الملك خلال أربعة عشر يومًا من تاريخ إلقاء الخطبة.

تعود الجذور التاريخية لفكرة الرد على خطابات العرش إلى قيام أعضاء البرلمان بتقديم الشكر والتقدير لرئيس الدولة على تفضله بافتتاح أعمال المجلس وتقديمه لأفكاره ومقترحاته المتعلقة بتحسين الأوضاع الداخلية، غير أن التطور الدستوري قد حوَّل هذا الإجراء من تقليد بروتوكولي إلى ممارسة دستورية تعكس موقف السلطة التشريعية من الخطاب السياسي لرأس الدولة. فاليوم لم يعد الرد مجرد تعبير عن الامتنان، بل أداة تفاعلية تُترجم رؤية القيادة إلى التزامات عملية قابلة للتنفيذ، ومساحة يُعلِن فيها البرلمان اتجاهاته التشريعية والرقابية خلال فترات انعقاده.

كما أن إلزام المجلسين بتقديم جوابيْن منفصليْن يعكس رغبة المشرع في تعزيز استقلالية كل مجلس وتمكينه من التعبير عن خصوصيته ووظيفته ضمن نظام ثنائية السلطة التشريعية القائم على أساس التوازن لا التبعية. فالأعيان يُجسّدون الخبرة والرصيد المؤسسي، في حين يُمثّل النواب الإرادة الشعبية، والردَّان معا يقدمان صورة متكاملة لوعي الدولة في التعامل مع الخطاب الملكي، بحيث يبقى لكل مجلس مسؤوليته الخاصة في متابعة تنفيذ التوجيهات الملكية.

ومن ناحية دستورية، فإن الرد يُشكّل امتدادًا لمبدأ المسؤولية السياسية في النظام النيابي الملكي؛ فإلزام مجلسي الأمة بعريضة مكتوبة يربط بين الخطاب بوصفه إعلانا للسياسة العامة وبين التزام أعضاء السلطة التشريعية بترجمة هذه السياسات إلى تشريع ورقابة على أرض الواقع. وهكذا يغدو الرد وثيقة محاسبة غير مباشرة: يتبنى فيها المجلسان توجهات الدولة ويلتزمان علنا بمتابعة تنفيذها.

ويُعدّ الرد على خطبة العرش لحظة سياسية ودستورية بالغة الأهمية، تتجاوز حدود البروتوكول إلى كونها أداة تواصل مؤسسي بين جلالة الملك ومجلس الأمة. فالرد ليس مجرد تكرار لما ورد في الخطاب، بل هو عملية تحليل وتفاعل تُظهِر مدى إدراك المجلسين لأولويات المرحلة واستعدادهما لتحويل التوجيهات الملكية إلى خطط تشريعية ورقابية واقعية. ومن هنا تبرز قيمة الرد بوصفه مقياسا لمدى نضج التجربة البرلمانية وقدرتها على الانتقال من التأثر بالخطاب إلى التأثير في آليات تنفيذه على أرض الواقع.

وقد كرّست أنظمة الحكم المقارنة الممارسة الدستورية ذاتها؛ إذ تنص المادة (74) من الدستور البحريني على أن يفتتح الملك دور الانعقاد العادي للمجلس الوطني بالخطاب السامي، ويختار كل من المجلسين لجنة من بين أعضائه لإعداد مشروع الرد على هذا الخطاب، ويرفع كل من المجلسين ردَّه إلى الملك بعد إقراره. كما تنص المادة (105) من الدستور الكويتي على أن يختار مجلس الأمة لجنة من بين أعضائه لإعداد مشروع الجواب على الخطاب الأميري متضمنا ملاحظات المجلس وأمانيه، وبعد إقراره من المجلس يُرفع إلى الأمير.

إن تقديم مجلسي الأعيان والنواب ردَّيْهما على خطبة العرش تمثل خطوة إيجابية في إطار التقاليد الدستورية الراسخة، لكنه لا يكتسب قيمته الحقيقية من مجرد صدوره أو إحكام صياغته، بل من قدرته على عكس فهم عميق لمضامين الخطاب الملكي وترجمتها إلى برامج عمل تشريعية ورقابية محددة. فالمطلوب أن تتحول هذه الردود من وثائق إعلان نوايا إلى خرائط تنفيذ تتضمن أولويات واضحة، وجداول زمنية مضبوطة، ومؤشرات أداء قابلة للقياس، بما يجعلها نقاط انطلاق لمرحلة جديدة من التفاعل البرلماني الواعي مع التوجيهات الملكية.

خلاصة القول إن جوهر الفلسفة الدستورية للرد على خطبة العرش هو تكريس مسؤوليةِ أعضاءِ السلطة التشريعية أمام الملك بوصفه رأس الدولة، وتحويل المناسبة السنوية إلى دورة أداء تُقاس بالنتائج لا بالكلمات. فعندما تُعامَل الردود بوصفها عقود التزام سياسي تُراجع دوريا، ويُعلَن للرأي العام عن مخرجاتها بالأرقام والوقائع، نكون قد نقلنا هذه الممارسة من إطار المجاملة السياسية إلى نطاق المحاسبة الدستورية.

مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ