أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

قرقودة تكتب: العظمة لا تُمنح.. بل تُكتشف


تغريد جميل قرقودة

قرقودة تكتب: العظمة لا تُمنح.. بل تُكتشف

مدار الساعة ـ

في زمنٍ تتشابك فيه الأصوات وتضيعُ فيه المعايير، باتت الألقابُ تُمنحُ مجاناً، والكراسي تُورَّثُ بلا كفاءة، والهيبةُ تُشترى بالتصفيق لا بالفعل. أصبحنا نرى من يتحدث في غير مقامه، ومن يتقدّم الصفوف بغير استحقاق، حتى غابت الموازين واختلطت الملامح بين العظيم والمتسلق، وبين صاحب الإنجاز وصاحب الضجيج.

لقد كنّا – وما زلنا – نؤمن أن الكلمة موقف، وأن المنصب أمانة، وأن الشرف لا يُعلَّق على الصدور بوسامٍ مزيَّف، بل يُكتبُ في الذاكرة بعرق الصادقين. فكم من “لقبٍ” صنع وهماً، وكم من “اسمٍ” عظيمٍ حُجب خلف تواضعٍ لا يُرى. إن الزمان، حين يصفو، لا يكرّم إلا أولئك الذين سكنوا جوهر الفعل لا مظهر القول.

لكل مقامٍ مقال، ولكل مقالٍ لسانٌ يناسبه، فليس كلُّ من أمسك قلماً كاتباً، ولا كلُّ من اعتلى منبراً قائداً. إنما الرجال مواقف، والمواقف لا تُزيَّف. هي لحظاتٌ تُختبر فيها المعادن، فينكشف اللامع من المطليّ، ويظهر النبيل من المتكلّف. وما أكثر ما رأينا في هذا العصر أقواماً تقلّدوا ألقاباً من ورق، واعتلوا قمماً لا أساس لها، فهوت بهم الريح عند أول عاصفة.

في فلسفة الحياة، لا يُقاس الإنسان بما يملكه من ألقاب، بل بما يتركه من أثرٍ في صمت الأيام. فالقيمة الحقيقية لا يخلقها اللسان، بل الفعل حين يتجسّد في واقعٍ يراه الناس ولا يُقال عنه كثيرًا. الألقاب تشبه الظلال… تكثر عند المغيب وتختفي حين تشرق الحقيقة.

ومن فهم جوهر الوجود أدرك أن الزمان لا يُخطئ في اختيار رجاله، وأن العظمة ليست في أن تُذكر الأسماء، بل في أن تُخلّد الأعمال. فالعنوان الذي لا تصنعه التجارب، يبقى ورقًا بلا روح، أما أولئك الذين بنوا مجدهم على العرق والصدق، فهم وحدهم من يوقّع التاريخُ بأسمائهم على صفحات الخلود

إنّ للأزمنة رجالها، وللرجال أزمنتهم، وكل مرحلةٍ لا تليق إلا بأبناء معدنها. فحين تشتدّ الأزمات، لا يظهر إلا من كانت جذوره ضاربة في الصبر، وعقله مشدوداً إلى الحق، لا إلى المكاسب. أما من يتزينون بالكلمات دون معنى، فهم زبدُ المشهد، سرعان ما تبتلعهم الأيام في قاع النسيان.

لسنا ضد الألقاب إن جاءت بجهدٍ وعرقٍ وسهرٍ على العطاء، ولكننا ضدّ أن تُصبح الألقابُ ستاراً يخفي خواء الفكر وضآلة العمل. فالألقاب التي لا تسندها الأفعال، تُسقط أصحابها قبل أن ترفعهم، وتحوّل الاحترام إلى سخرية، والتقدير إلى شفقة.

ويا ليت من يوزّعون الألقاب يدركون أن المجتمعات لا تُبنى بالمجاملات، ولا تُدار بالعناوين المفرغة، بل بالرجال الذين إذا تحدّثوا أنصتَ التاريخ، وإذا عملوا أنجزوا بصمتٍ لا يطلب التصفيق. هؤلاء وحدهم، من يصنعون للأزمنة وجهاً، وللأوطان كرامةً لا تشيخ.

فالتاريخ لا يكتب أسماء المتجمّلين، بل يكتب سِيَرَ العظماء الذين لم يبحثوا عن الضوء، بل صاروا هم الضوء.

وفي الختام، يبقى المبدأ الأصدق أن لكل مقامٍ مقالا، ولكل زمانٍ رجال، لكنّ الرجولة ليست لقباً ولا رتبةً ولا جاهاً… إنما هي صدقٌ في القول، ووفاءٌ في الموقف، وعملٌ إذا قيل عنه “هذا هو الرجل”، سكتت الأقوال، ونطقت الأفعال.

“الألقاب تذوب، والمناصب تزول، ولا يبقى في ذاكرة الزمن إلا أثرُ من جعل الصمتَ يتحدّث بإنجازه.

مدار الساعة ـ