أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات أحزاب مجتمع وظائف للأردنيين مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف مناسبات جاهات واعراس مستثمرون شهادة جامعات دين بنوك وشركات خليجيات مغاربيات ثقافة رياضة اخبار خفيفة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

التل يكتب عن استبيان دراسات الجامعة الأردنية: حين تتحول الأرقام إلى غربة عن هموم الناس


د. مصطفى التل

التل يكتب عن استبيان دراسات الجامعة الأردنية: حين تتحول الأرقام إلى غربة عن هموم الناس

مدار الساعة ـ

كنت أجلس في ذلك المقهى الشعبي في اربد ، حيث يلتقي الناس بعد يوم شاق من الكفاح من أجل لقمة العيش, على الطاولة المجاورة، كان أبو محمد يحكي لصديقه عن ابنه الذي هاجر إلى الخليج بحثاً عن عمل : " يا زلمة، الولد تخرج من الهندسة منذ سنتين وما حصل شغل. والآن سافر وبكينا وراه."

فتحت التقرير الذي أصدره مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية ، وبدأت أقرأ: "٧٤٪ من الأردنيين يعتقدون أن الأمور تسير في الاتجاه الإيجابي..!!" , نظرت حولي في المقهى، رأيت الوجوه المتعبة، الأيادي المتشابكة على الطاولات، العيون التي تحمل هموم الأيام. تساءلت في صمت: أي اتجاه إيجابي هذا الذي يتحدثون عنه؟!

الاستبيان الذي يعيش في برج عاجي

تحدثت مع أم علي جارة قديمة ، وهي أرملة تعيل ثلاثة أطفال , تعمل في تنظيف المنازل، وتتقاضى أجراً بالكاد يكفي لشراء الأدوية لابنتها المصابة بالربو عندما سألتها عن رأيها في الأوضاع، قالت: "الحمد لله على كل حال، لكن والله الوضع صعب, الإيجار في العالي، والأسعار زادت، والدخل شبه معدوم "

عدت إلى التقرير، فوجدت أن "٦٥٪ يثقون بقدرة الحكومة على تحمل مسؤوليات..!! "

تساءلت: هل زار معدّو هذا الاستبيان الأحياء الشعبية؟! هل جلسوا مع العمال الذين ينتظرون على مفترقات الطرق؟! هل تحدثوا مع الشباب الذين يئسوا من إيجاد فرصة عمل؟!

كيف تُصنع هذه الأرقام؟!

د. سامر، أكاديمي متخصص في الدراسات الاجتماعية وهو زميل دراسة ، سألته عن سر هذا التناقض بين الأرقام والواقع. أجابني: "المشكلة تبدأ من منهجية اختيار العينات , حين تختار عينتك من فئات معينة، في أحياء محددة، وفي أوقات معينة، ستحصل على نتائج مغايرة للواقع."

ثم أضاف: "هناك أيضاً ما نسميه 'تحيز الصياغة'، حيث تكون الأسئلة موجهة بطريقة تجبر المستجيب على الإجابة بشكل إيجابي, كما أن الكثير من الناس يخافون من التعبير عن آرائهم الحقيقية في الاستبيانات الرسمية."

قصص من أرض الواقع

شاب في العشرينات من عمره كان يرافق والده المريض, سألته عن الاستطلاع ونتائجه , قال لي: " أنا خريج محاسبة منذ ثلاث سنوات، وأعمل حالياً في محل لبيع الهواتف براتب 150 دينار. كيف تريدني أن أكون متفائلاً؟"

في إربد، تحدثت مع معلم متقاعد يعاني من أمراض مزمنة. قال: "معاشي بالكاد يكفي لشراء الأدوية. كل شهر أضطر لاختيار بين دواء وآخر.هذا هو التفاؤل الذي يتحدثون عنه؟"

لماذا هذه الفجوة الكبيرة؟

بعد جولة سريعة والحديث مع الناس، بدأت أفهم أن القضية ليست ببساطة أرقام مقابل واقع , إنها قضية منهجية وأخلاقية في آن واحد.

الناس العاديون لا يفكرون بلغة النسب المئوية، بل بلغة الهموم اليومية:

• الأب الذي لا يستطيع دفع رسوم جامعة ابنه

• الأم التي تتسوق وتحسب كل قرش

• الشاب الذي يرى أحلامه تتحطم على صخرة البطالة

بينما تقيس الاستبيانات المؤسسية "الاتجاهات العامة" و"الثقة المؤسسية" و"التفاؤل بالمستقبل"، لكنها تفشل في قياس:

• عمق اليأس في نفوس الشباب

• حجم التنازلات اليومية للأسر

• ثقل الهموم على كاهل كبار السن

الاستبيان الحقيقي في الشارع

قررت أن أقوم باستبيان بسيط وسريع كعينة انا اخترتها من عامة الشعب الأردني تحدثت مع مئة شخص. كانت النتائج مختلفة تماماً:

• ٨٥٪ يرون أن الأوضاع الاقتصادية تتراجع

• ٩٠٪ يعانون من صعوبة توفير الاحتياجات الأساسية

• ٧٠٪ يشعرون أن مستقبل أبنائهم في خطر

لكن الأهم من الأرقام كانت القصص:

• قصة ذلك الشاب الذي يحلم بالزواج ولا يستطيع توفير متطلباته

• قصة تلك الأسرة التي اضطرت لسحب أبنائها من الجامعة

• قصة ذلك التاجر الصغير الذي على حافة الإفلاس

خاتمة: الأرقام لا تطعم خبزاً

في نهاية رحلتي، أدركت أن قيمة أي استبيان تكمن في مدى قربه من هموم الناس الحقيقية. الأرقام الوردية لا تساعد في حل المشاكل، بل قد تعمي المسؤولين عن رؤية الحقيقة.

ربما يحتاج مركز الدراسات إلى:

• النزول إلى الأرض والاستماع للناس دون وساطة

• استخدام لغة بسيطة يفهمها الجميع

• قياس المؤشرات الحقيقية لمعاناة الناس

• الابتعاد عن الأسئلة الموجهة والمحافظة على الحياد

ففي النهاية، قد تكون قصة أم تعاني من أجل توفير العلاج لابنها، أو شاب يحلم بعمل يليق بتعليمه، أهم من كل النسب المئوية في العالم., فهذه القصص هي التي تحكي الحقيقة بكل وضوح، دون تزيين أو تلميع

مدار الساعة ـ