أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة جاهات واعراس مستثمرون شهادة الموقف مناسبات جامعات بنوك وشركات خليجيات مغاربيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة صحة وأسرة تكنولوجيا طقس اليوم

الدبوش يكتب: الغرق في وحل التفاهة


راتب المرعي الدبوش

الدبوش يكتب: الغرق في وحل التفاهة

مدار الساعة ـ

(آلان دونو) فيلسوف وكاتب كندي، ولد في العام 1970، وحصل على درجة (الدكتوراة) في الفلسفة من جامعة باريس في العام 2004، ويعمل، حاليا، أستاذا للفلسفة والعلوم السياسية بجامعة (كيبيك) في كندا.

في العام 2017 أصدر (آلان دونو) كتابا باللغة الفرنسية، بعنوان معناه بالعربية (نظام التفاهة). وقد تُرجم الكتابُ، أولا، إلى اللغة الإنجليزية، ثم قامت الدكتورة (مشاعل عبد العزيز الهاجري) الأستاذة في كلية الحقوق بجامعة الكويت بترجمته من الفرنسية إلى العربية، مع الاستئناس الذكي بالترجمة الإنجليزية في الوقت ذاته.

ولم تكتف الدكتورة (مشاعل الهاجري) بترجمة الكتاب، بل أضافت إلى تلك الترجمة تعليقات، وهوامش توضيحية من منظورها الشخصي، ما شكل إضافة نوعية لترجمتها التي نشرتها (دار سؤال للنشر) في بيروت، في العام 2020 في 368 صفحة، تحت عنوان (نظام التفاهة).

قدمت الدكتورة (الهاجري) لترجمتها بمقدمة ثريـّة، جاءت في ست وستين صفحة، تكاد تكون كتابا مستقلا في الموضوع ذاته. وهذه المقدمة، وإن جاءت على هدي من النص الأصلي للكتاب، فإنها تنبئ عن أن المترجمة لم تُقْدِمْ على ترجمة الكتاب، لمجرد الترجمة، بل ترجمته لأنه يتلاقى مع كتابات، وأفكار وتأملات لها، هي شخصيا، في موضوع إشاعة التفاهة، إلى درجة أنها كانت تفكر في تأليف كتاب تتناول فيه هذا الموضوع. فلما ظهر كتاب (آلان دونو) وقرأتْه، وجدتْ فيه ما كانت تفكر فيه، وأنها، بحسب تعبيرها، لو ألفت كتابها، «لما اختلف مضمونه عما جاء في كتاب (آلان دونو) إلا في الأمثلة».

***

تتمثل الفكرة الرئيسة التي قام عليها كتاب (نظام التفاهة) لمؤلفه الفيلسوف الكندي (آلان دونو) في أن كل النشاطات الإنسانية المعاصرة، سواء كانت سياسية، أو إعلامية، أو أكاديمية، أو اقتصادية، أو سواها ـــ ـــ ـــ هي أقرب إلى أن تكون (لعـــ ــــبة) لا يتكلم عنها أحد. ولكن الأطراف المشاركة فيها تعرفها، وتلعبها.

وهي لعبة ليس لها قواعد مكتوبة، ولكنها تتمثل في الانتماء إلى كيان كبـيـر ما، يمكن أن نحسّ به، وأن نشعر بوجوده، وأن نلمس تأثيره الكبير وسطوته الهائلة، ولكننا لا نستطيع أن نحدّده باسم ما.. نعم، ربما نعرفه، ولو بشكل تقريبي، ولكننا نخاف أن نقول له: أنت الذي كسرت مزراب العين، وأنت الذي سمّمتَ القطيع.

الخطورة في هذه (اللعبة) كما يرى (آلان دونو) أنها لا تقيم وزنا للقيم والمُـثُل، بل تصبح النشاطات المتصلة بها مجرد حسابات مصالح، تقوم على الربح والخسارة، سواء كان ذلك على صعيد الأموال والثروات المادية، أو على صعيد الأرباح المعنوية، كالشهرة، والنجومية، والمكانة الاجتماعية.

وتستمر اللعبة إلى أن يضرب الفساد بنيان المجتمع وأساساته، حيث يبدأ الناس بالانسحاب، تدريجيا، من الاهتمام بالشأن العام، ليتقوقعوا على اهتماماتهم الصغيرة، وقضاياهم الهامشية.

وفي ظل هذا الوضع، يصبح الباحثون عن النجاح السهل دونما أي اعتبار إلا لمنطق الربح المادي أو المعنوي ـــ ـــ هم الذين يديرون هذه اللعبة الكونية، وهم الذين يحققون أهدافهم، وهم الذين يحظون بالمال والشهرة، والمكانة الاجتماعية، والمناصب والمكاسب، وهم الذين يتحكمون بالدولة والمجتمع.

أما المتمسّكون بالقيم، المسلحون بالكفايات الحقيقية الذين يسعون إلى النجاح الحقيقي النظيف والرفيع المستوى، فإنهم يجدون أنفسهم في ظل هذا الواقع، إما مهمشين، أو واقعين في شباك اللعبة الساعية إلى نشر نظام التفاهة.

وهكذا، بسطت التفاهة سلطانها على كافة أرجاء العالم؛ فالتافهون قد أمسكوا بمفاصل السلطة، على تعدد مستوياتها وميادينها، ووضعوا أيديهم على مواقع القرار، وصار لهم القول الفصلُ والكلمةُ الأخيرة في كل ما يتعلق بالشأنين: الخاص والعام.

***

جاء كتاب (دونو)، على حد تعبير (بلال بكري)؛ «ليدق ناقوس الخطر للعواقب الوخيمة الناتجة عن هذه السيطرة المحكمة للتافهين في كل المواقع».

وهو يشرح بشكل مفصل كيف مدّت التفاهة أذرع سيطرتها في كل اتجاه، وفي كل ميدان؛ من الميدان الأكاديمي، إلى السياسي، فالاقتصادي والتجاري، والمالي، والإعلامي، والفني.

ولنا أن نتساءل: كيف تمّت هذه السيطرة؟؟

لو ألقينا نظرة على (منصات التواصل الاجتماعي) التي تمتلك، من حيث المبدأ، فرصا عظيمة لتبادل الفكر والمعرفة والثقافة، والرقي بالمجتمع، بشكل يختصر الكثير من وقت الأفراد وجهودهم، بفضل من تشاركية الأفكار والمعارف والثقافات، فما الذي نجده؟؟

نجد أن هذه المنصات قد تخلت عن تلك الفرص العظيمة، واتجهت إلى (ترمـيز التافهين)، أي جعلهم رموزا مجتمعية، يظهرون في المجتمع بمظهر الناجحين والمتفوقين... والمؤثرين.

وهنا، تسعى بعض وسائل الإعلام الرديئة، وغير الواعية إلى استقطاب هذه (الرموز التافهة)؛ لاستخدامهم طُعْما لجلب المتابعين من النوعية ذاتها؛ من أجل زيادة العائد من الإعلانات التجارية.

لا أحد ينكر على المؤسسات الإعلامية أن تستقطب المعلنين لزيادة رأس مالها، ولكن ذلك يجب ألا يجعل المؤسسة الإعلامية أسيرة صاحب الإعلان، وألا تستقطبَ الإعلانات بالمحتوى التافه الذي يطيح بقيم المجتمع وأخلاقه وذائقته؛ لأنها لو فعلت ذلك، وقد فعلت، لانطبق عليها قول القائل:

كَمُطْعِمَةِ الأيْـتَامِ مِـــنْ كَـــ ــدِّ فَـــ ــــرْجِـــهَا

فَـلَـيْـتَـــ ـكِ لَـمْ تَـــ ـزْنـــ ـيْ وَلَمْ تَــتــصَـدّقــي.

***

إن الدفع بالتافهين الى واجهة العمل الإعلامي هو جريمة بحق الشباب في مراحل النشوء والمراهقة، وضربٌ في مقتلٍ لدور الأسرة والمجتمع، والمؤسسات التربوية.

«إن المطلع على منصات (المشاهير الجدد) في مواقع التواصل الاجتماعي، يجد أنها تشترك في سمة واحدة، هي اعتمادها على صناعة التفاهة، أو (الاستهبال)».

فهذا يقفز كقرد شرب كوبا من الشطّة الحارّة، وهذا يتحدث بلهجة متخلفة، وذاك يصنع مقالب ثقيلة دم، وهذا يملأ محتواه بجمل وتعبيرات مستقاة من عالم الرذيلة.. وهكذا.

والعجيب، في ظل طغيان التفاهة، أن كلا منهم سيحقق (الشهرة)، وسيجد من يصفق له. وبعد أن يتكاثر عدد متابعيه ممن هم على شاكلته، سيصفه التافهون من القائمين على وسائل الإعلام المهترئ بأنه (مؤثـــ ـــر)، وستنهال عليه عروض الاستضافة في وسائل الاعلام التافهة، والمهرجانات السخيفة. أما النتيجة، فهي انحدار القيم، وتردّي الأخلاق، وتسليع الثقافة وتسطيحها، وهو ما يدخل الأجيال والمجتمعات في متاهات الضياع، ويفقدها هويتها، وشخصيتها، وقيمها السامية ومُثُلَها العُليا.

***

إن كتاب (آلان دونو) الذي ترجمته الدكتورة مشاعل الهاجري، بعنوان (نظام التفاهة) كتاب يستحق القراءة بتعمق، ووعي ورويّة؛ لندرك أننا نغرق في بحر من أوحال التفاهة التي تتشكل من ثلاثة روافد.

أولها: الجهلة والتافهون والأميون والساقطون بالبراشوت الذين تناط بهم مسؤولية إدارة المؤسسات الإعلامية.

وثانيها: من يستقطبه هؤلاء ممن هم على شاكلتهم من التافهين والتافهات قليلي العدة؛ ليعبثوا بقيم المجتمع وأخلاقه، ويشوهوا ثقافته وذائقته بما يقدمون من تفاهة وفهاهة.

وثالثها: أولئك الذين يدافعون عن هؤلاء التافهين وما يقدمونه من محتوى هابط؛ بدوافع من تعصب عشائري أو إقليمي، أو جهوي ساذج ورخيص، أو لأنهم يشتركون معهم في صفة التفاهة والسطحية.

***

وأخيرا،

من المسؤول عن هذا الوضع المزري والمأساوي؟ وما المطلوب للخروج من وحل التفاهة الذي نغرق فيه؟

كلنا مسؤولون: أفرادا، وعائلات، ومؤسسات تربوية واجتماعية. أما المطلوب؛ فهو التوقف عن جعل الأغبياء والجهلة والتافهين مشاهير وقدوات؛ بعدم متابعة تفاهاتهم، والنظر إلى ما يقدمونه كنوع من (العورات) البشعة التي علينا أن نغض عنها أبصارنا، أو كنفايات عفنة، مكانها حاويات القمامة.

****

مدار الساعة ـ