منذ فترة طويلة وأنا أتابع بقلق متزايد الخطابات السلبية التي تستهدف الأردن تلك التي تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو تتسرب من بعض المنابر الإعلامية أو حتى تلبس ثوب الرأي الحر بينما هي في حقيقتها محاولات منظمة لزعزعة استقرار هذا البلد وتشويه صورته ولست مبالغ إن قلت إن ما نعيشه اليوم هو حرب من نوع مختلف حرب لا تخاض بالسلاح بل بالكلمة والصورة والمعلومة المضللة إنها حرب تستهدف الهوية والسيادة قبل أن تستهدف الحدود والجغرافيا
أكتب هذا المقال انطلاقا من قناعة شخصية أن خطابات الكراهية ضد الأردن ليست مجرد ظاهرة عابرة يمكن تجاهلها بل هي تهديد حقيقي لأنه يطال أهم عناصر قوة الدولة الثقة المتبادلة بين المواطن ومؤسساته والتماسك الاجتماعي الذي يقوم عليه الكيان الوطني والمكانة السياسية التي بناها الأردن عبر عقود من العمل المتزن والملتزم بقضايا الأمةبرأيي علينا أن نفهم أن خطابات الكراهية لم تعد أصوات فردية غاضبة أو مواقف متشنجة بل تحولت إلى أداة سياسية وإعلامية بامتياز هناك من يدير هذه الحملات ويخطط لها ويستغل الفضاء الرقمي لترويجها مدرك أن الكلمة قد تكون أحيانا أشد وقعا من الرصاصةومن يتأمل مضمون هذه الخطابات يدرك أنها تتحرك في ثلاثة اتجاهات رئيسية سياسيا تشويه المواقف الأردنية الثابتة تجاه فلسطين والقدس ومحاولة تقديم الأردن وكأنه دولة ضعيفة التأثير أو مترددة في قراراتها واقتصاديا واجتماعيا من اجل تضخيم التحديات المعيشية والبطالة والدين العام وتحويلها إلى منصة للتشكيك في كفاءة الدولة ومؤسساتها وايضا على هويتنا الوطنية الأردنية واللعب على الفوارق الاجتماعية وإثارة قضايا تاريخية و اجتماعية بقصد زعزعة الانتماء الوطني المشتركهذه ليست مجرد عناوين بل هي محاور عمل ممنهج يهدف إلى إضعاف الأردن من الداخل وضرب مكانته في الخارجوهنا السؤال لماذا الأردن؟و لماذا يستهدف الأردن بهذه الخطابات؟ الجواب برأيي واضح لأن الأردن يمثل نموذج سياسي وسطي في منطقة تعج بالتجاذبات الحادة لقد اختار هذا البلد الاعتدال حين انجرف آخرون نحو التطرف وتمسك بالثوابت حين غير غيره مواقفه وبنى صورته الدولية على الدبلوماسية والعقلانيةهذا الدور الوسطي جعل الأردن لاعب مؤثر رغم قلة موارده وهو ما يثير حفيظة أطراف ترى في استقراره وقوته تهديدا لمصالحها لذلك يصبح النيل من صورته ومحاولة تشويه هويته الوطنية الأردنية وسيلة لاضعاف تأثيرهما يقلقني أكثر هو أثر هذه الخطابات على الداخل الأردني فحين تتكرر الرسائل السلبية ويعاد نشر الشائعات باستمرار قد يجد بعض المواطنين أنفسهم أمام حالة من الشك أو عدم اليقين وإذا ما ضعفت الثقة بالمؤسسات وتسربت مشاعر الإحباط فان النسيج الاجتماعي يصبح مهددلان خطاب الكراهية هنا لا تستهدف الأفراد فقط بل يسعى إلى ضرب الهوية الوطنية الأردنية التي ميزت الأردن هذه الهوية التي صمدت أمام التحديات عبر عقود والتي حافظت على وحدة المجتمع رغم التنوع والاختلاف هي اليوم في مرمى نيران الكراهية وأي مساس بها هو مساس مباشر بالسيادة لأن الدولة التي تفقد هويتها الوطنية تفقد قدرتها على حماية نفسها سياسيا واجتماعياورغم هذا إلا أنني دائما أحب أن أكون إيجابي وطموح ومنطقي ومتفائل في بد من وجود بصيص أمل وهذا ما يبعث الاطمئنان هو أن الأردن لم ينجر إلى ردود فعل انفعالية الخطاب الرسمي بقي عقلاني متوازن يؤكد على الثوابت ويفضل الرد بالحقائق لا بالشعارات الإعلام الوطني رغم ما يحتاجه من تطوير لعب دور في كشف التضليل ونشر المعلومة الدقيقة والمجتمع المدني كان حاضر في نشر ثقافة التماسك ورفض الفتنةلكن برأيي الرد الأقوى جاء من الناس أنفسهم فالمواطن الأردني رغم كل الظروف الصعبة أظهر وعي كبير ورفض أن يكون أداة في معارك لا تخدم مصالحه ولا مصلحة وطنه وهذا الوعي الشعبي هو خط الدفاع الأول في مواجهة أي خطاب يهدف إلى النيل من الأردنكما أعتقد أننا بحاجة إلى استراتيجية وطنية شاملة لمواجهة خطاب الكراهية تقوم على عدة مستويات إعلاميا تطوير الرواية الوطنية بلغة عصرية وتوسيع حضور الأردن في الفضاء الرقمي العالمي لأن المعركة اليوم تحسم على الشاشات والهواتف وتشريعيا تحديث القوانين بما يوازن بين حرية التعبير وضرورة حماية المجتمع من خطاب الكراهية الممنهج وايضا اجتماعيا تعزيز قيم الانتماء والتماسك عبر التعليم والثقافة وإشراك الشباب في مشاريع وطنية تعزز ثقتهم بدولتهم وبحثيا وأكاديميا من خلال دعم الدراسات التي ترصد خطاب الكراهية وتفككه وتقدم حلولا علمية وواقعية للتعامل معهوكما أنني اومن أن الأردن الذي تجاوز أزمات منذ نشأته قادر اليوم أيضا على مواجهة خطاب الكراهية بكل أشكاله فالهوية الأردنية لم تصنع في يوم أو سنة بل هي نتاج تاريخ طويل من التضحيات والتجارب المشتركة والسيادة الأردنية لم تهدد يوم بالضغوط الخارجية لأنها تستند إلى شرعية شعبية وإرادة وطنية راسخةكما أن خطابات الكراهية ستبقى موجودة وربما تتصاعد لكن اليقين عندي أن الأردن سيبقى أكبر منها جميعها لأن قوة هذا الوطن ليست في شعارات ترفع وقت الأزمات بل في وعي شعبه الذي يعرف أن الكراهية لا تبني وطنا وأن الهوية والسيادة لا تشترى ولا تستعار بل تحفظ وتصان كل يوم بالارادة والعمل والايمان.
الصقور يكتب: الأردن في مواجهة خطابات الكراهية.. تحديات الهوية والسيادة
المهندس عبد الرحمن حسن الصقور
الصقور يكتب: الأردن في مواجهة خطابات الكراهية.. تحديات الهوية والسيادة
مدار الساعة ـ