أولى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله إهتماماً خاصاً بتطوير القطاع العام وتعزيز دوره بوصفه ركيزة أساسية لنهضة الدولة الأردنية،حيث أكد جلالته على مأسسة العمل الحكومي بما يضمن الإستمرارية والكفاءة، وتفعيل مبادئ المحاسبة وربط المسؤولية بالنتائج، وترسيخ قيم الشفافية والحوكمة الرشيدة. وقد جاءت توجيهاته السامية واضحة في ضرورة تحديث الأداء الحكومي وإعادة هيكلة المؤسسات وتعزيز التحول الرقمي، بما يسهم في تقديم خدمات أفضل للمواطنين ويعزز ثقة المجتمع بالدولة ومؤسساتها.
وفي القطاع الزراعي، تعيش الزراعة في الأردن مرحلة دقيقة تجمع بين التحديات الثقيلة والفرص الواعدة. فعلى الرغم من أن مساهمتها المباشرة في الناتج المحلي الإجمالي لا تشكل أكثر من5- 6% ومع الصناعات الغذائية التحويلية وسلاسل القيمة الزراعية قد تصل مساهمتها المباشرة وغير المباشرة إلى ربع الإقتصاد، وتعد أحد الأعمدة الأساسية للأمن الغذائي والإقتصاد الوطني ، إلا أن القطاع الزراعي يواجه ومنذ سنوات تحديات متراكمة جعلته أقل قدرة على المنافسة إقليماً ودولياً.خلال الأعوام الماضية، واجهت وزارة الزراعة الأردنية إدارة ضبابية وتراجعاً ملموساً بعد موجات تقاعد عدد كبير من الكفاءات الوسطى والعليا دون وجود خطط إحلال حقيقية وتمثيل الأردن في المنظمات والهيئات الدولية من فئات غير مؤهلة أو غير كفؤة لذلك ولا يستفيد منها القطاع، كما عانى القطاع من تغييرات متكررة في القيادات داخل الوزارة والجهات التابعة لها وتسليم فئات مواقع قيادية غير قادرة على إتخاذ القرارات المناسبة ضمن القوانين والتعليمات المعمول بها رسمياً، والأهم عدم تفعيل مبدأ المسائلة والشفافية وعدم الإستثمار الكافي في نقل المعرفة أو تدريب كوادر جديدة لتغطية الفجوة ، بالإضافة إلى غياب مبدأ المحاسبة والتقييم لضمان أن الإنجاز مرتبط بالكفاءة لا بالموقع فقط، ومحدودية التنسيق الفعال مع الوزارات والمؤسسات الأخرى ،كل ذلك أضعف الإستقرار المؤسسي والقدرة الفنية بالتعامل مع الأزمات وسرعة الإستجابة لأي طارئ. كما ساهمت البيروقراطية وضعف التحول الرقمي في زيادة تعقيد المعاملات مقارنة بقطاعات أخرى مما أدى إلى فقدان الثقة بين المزارعين والمؤسسات الزراعية الرسمية نوعاً ما نتيجة غياب خطط تسويقية واضحة وارتفاع تكاليف الإنتاج وغياب التعويضات عند الكوارث الطبيعية بشكل مناسب. وزادت ندرة المياه والتغير المناخي والفاقد الزراعي من صعوبة المشهد،هذه هي الفجوة بين "المكتب"و"الميدان".وعلى أرض الواقع، تراجعت المساحات المزروعة، وتزايدت هجرة صغار المزارعين بسبب الخسائر المتكررة،كما بقي الفاقد الزراعي مرتفعاً بسبب غياب سلاسل التبريد والتخزين.رغم هذا الواقع، ومع رؤية التحديث الإقتصادي كانت هناك تحولات لافتة وخطط وإستثمارات جديدة ولم تكن الصورة سوداء بالكامل. فقد بدأت تظهر بوادر تحول إيجابي، أبرزها إطلاق خطة وطنية للزراعة المستدامة، كما دعمت الحكومة مشاريع الصناعات التحويلية والتبريد والتغليف، فيما ساهمت برامج التمويل الدولية مثل مشروع البنك الدولي (ARDI) بقيمة 125 مليون دولار في تعزيز صمود القطاع الزراعي. إضافة إلى ذلك، تم توقيع اتفاقيات لإنشاء مصانع تجهيز وتعبئة وتبريد بقيمة 5 ملايين دينار، مع برامج تمويلية وقروض ميسرة بلغت أكثر من 115 مليون دينار لدعم مشاريع صغار المزارعين والمرأة الريفية. ورغم هذه الخطوات، يبقى غياب القطاع الخاص تحدياً رئيسياً، إذ لم يظهر كلاعب فاعل مشارك في اتخاذ القرار أو التمويل أو التسويق أو الصناعات التحويلية.كما أن محدودية شركات التسويق الزراعي وعدم الإستثمار في سلاسل التوريد تجعل المزارع يواجه السوق وحيداً معتمداً على الوسطاء.وتعود أسباب هذا الغياب إلى ضعف البيئة التشريعية الجاذبة للإستثمار الزراعي، قلة الشراكات الحقيقية بين الحكومة والقطاع الخاص، وارتفاع المخاطر المرتبطة بندرة المياه والتغير المناخي، فضلاً عن القرارات المفاجئة التي أضعفت ثقة المستثمرين. ولتحقيق تحول واقعي في الزراعة الأردنية، يجب اعتماد نهج إصلاحي شامل يرتكز على تعزيز كفاءة القيادات بإختيار القيادات وفق الكفاءة والخبرة، وتثبيت الإستقرار في المواقع العليا وربط المسؤولية بالنتائج.وأهمها إعادة هيكلة المؤسسات الزراعية لتوضيح الأدوار وتجنب التداخل والإزدواجية في العمل، والتركيز على بناء قدرات الكوادر البشرية من خلال التدريب ونقل الخبرات.أما رقمنة الإجراءات فيجب أن يأخذ الحيز الأكبر لتقليل البيروقراطية وتعزيز سرعة الاستجابة لأي طارئ.ودعم شراكة حقيقية بين الحكومة، القطاع الخاص، والمزارعين بحيث تكون الحكومة منظمة ومشرعة، والقطاع الخاص مشاركاً في القرارات الهامة ومستثمراً ومسوقاً، والمزارع منتجاً أساسياً ملتزماً بالممارسات الزراعية الجيدة وتفعيل دور اتحاد المزارعين الأردنيين والجمعيات التعاونية القوية، وربما إنشاء هيئة أو اتحاد للجمعيات التعاونية على غرار التجارب الناجحة في دول أخرى.في الخلاصة تأتي أهمية التوجيهات الملكية السامية التي أكدت دوماً على ضرورة تحديث القطاع الزراعي وتعزيز دوره في تحقيق الأمن الغذائي والتنمية الإقتصادية، وهو ما يضع الجميع أمام مسؤولية مشتركة لترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس.فالزراعة الأردنية تقف اليوم على مفترق طرق فمن جهة، هناك تاريخ طويل من الترهل وفقدان الثقة وتراجع المزارع الصغير وهم شريجة كبيرة ، ومن جهة أخرى، هناك مؤشرات تحول ملموسة وخطط استثمارية طموحة بدأت تعيد الأمل. الحل لا يكمن في تحميل المسؤولية لأي طرف من الأطراف المعنية، بل في شراكة حقيقية تعيد تعريف الأدوار وتضمن الإستدامة وتبني طريق جديد للعمل في القطاع الزراعي.دعم المزارع الاردني واجب وطني يفوق كل الواجبات لأنه الذراع الرئيسي للأمن الغذائي
الروابدة تكتب: الزراعة الأردنية على مفترق طرق
مدار الساعة ـ