كلما ظن الأردنيون أنهم تجاوزوا مرحلة التوتر، وأن الدولة تتجه بخطى ثابتة نحو استقرار يرسخ الأولويات الوطنية ويحقق التوازن الداخلي، تظهر بعض الجماعات مجددا على الشارع، منددة بما يجري في المحيط الإقليمي، وكأنها تترقب أي حدث، صغيرا كان أو كبيرا، لتستعيد الأضواء مجددا وتعلن بجرس مسموع: "نحن لا زلنا موجودين"، والنتيجة واحدة هي إعادة إنتاج ذات المشهد المكرر، تكرار نفس الشعارات، إحياء الخطاب ذاته، حتى أصبحنا جميعا نردد بمرارة واستياء "رجعنا على يا طير يلي".
المسألة لم تعد مجرد ممارسة حق دستوري مشروع في الاعتصام والتعبير عن الرأي، بل تحوّلت في كثير من الحالات إلى أداة ضغط سياسي ممنهجة، واستعراض لتوظيف الشارع كوسيلة لتحقيق أجندات ضيقة لا تخدم المصلحة الوطنية، وهنا يتضح جليا بأن الدولة ليست عاجزة عن اتخاذ القرارات الحاسمة بمنع التجمعات والاعتصامات إذا ما رأت فيها تهديدا مباشرا للأمن أو تعطيلا لحياة المواطنين اليومية، لكنها اختارت – بحكمة ووعي سياسي – افتراض حسن النية، وفتح مساحات للتعبير، قبل اللجوء إلى إجراءات الحسم والقانون.المفارقة الأشد وضوحا تكمن في أنه لا توجد شعوب في المحيط والإقليم تخرج للتعبير في الشوارع حاليا لانها وصلت إلى قناعات ووعي بأنها لن تأخذ على عاتقها الفوضى أو الاحتجاج عند كل حدث، فاصبحت تدرك بان معالجة أزماتها وإدارة التحديات مسؤولية مؤسساتها وحكوماتها، إدراكا منها أن المسؤولية الوطنية تتطلب ضبط النفس والالتزام بالقانون، وأن استقرار المجتمع لا يُبنى على استعراض الشارع بل على عمل مؤسساتي جاد، فلماذا يُراد للأردن أن يبقى في حالة استنفار دائم، وكأن استقراره رهن تصرف مجموعات تعمل خارج إطار المصلحة العامة؟اليوم .. والأردن يواجه تحديات اقتصادية وإقليمية أمنية، أصبح من الضروري تعزيز الاصطفاف الوطني، وتفعيل مؤسسات الدولة، والحفاظ على استقرار الجبهة الداخلية، بدل إعادة إنتاج مشاهد الاعتصامات التي لا تؤدي إلا إلى استنزاف الطاقات، وتعطيل المؤسسات، وإبقاء الوطن في حلقة مغلقة تعيده إلى نقطة البداية.إنها لحظة اختبار حقيقي للوعي والمسؤولية الوطنية، إما أن ننتقل من الاستعراض السياسي، وتقديم حلول عملية تعكس روح المسؤولية الوطنية، أو نظل ندور في ذات الحلقة حتى نسمع مجددا صدى القول الموجع "رجعنا على يا طير يلي".