لم نكن نحتاج إلى استهداف الكيان الصهيوني لدولة قطر وانتهاك سيادتها لتصفية القيادة السياسية والتفاوضية لحركة حماس حتى نضع سؤال مستقبل النظام الرسمي العربي على الطاولة.
فالاستهداف لم يكن حدثاً معزولاً، بل كشف مرة أخرى الطريقة التي تدير بها "إسرائيل" ومن خلفها الولايات المتحدة شؤون المنطقة، في إطار مشروع متواصل لتفكيكها وإعادة تركيبها وفق مصالحهما. ومن السذاجة الاعتقاد أن واشنطن لم تكن على علم مسبق ولم تمنح الضوء الأخضر لمثل هذا الاعتداء.قطر، مثل غيرها من الدول العربية، تتحرك وفق حسابات ومصالح، لكنها احتفظت بهامش دور مستقل نسبياً في ملفات حساسة، وفي مقدمها القضية الفلسطينية. لذلك كان استهدافها كاشفاً لعجز النظام الرسمي العربي عن حماية أي دولة من مكوناته، ودليلاً إضافياً على هشاشته البنيوية.ما الذي يمكن استنتاجه من استهداف قطر، ومن قبله الإبادة الجماعية في غزة، والسعي لضم الضفة الغربية، والاعتداءات المتكررة على لبنان وسوريا واليمن وتونس؟الاستنتاج المنطقي هو أن النظام الرسمي العربي يتآكل بسرعة، وأن وظيفته التاريخية ووجوده برمّته على المحك.لم يكن هذا التآكل وليد اللحظة، وإنما تراكم عبر عقود من الانقسامات الداخلية والصراعات البينية والارتهان شبه الكامل للقوى الغربية. فمنذ أن صُمّم النظام في أعقاب سايكس–بيكو، كانت وظيفته خدمة توازنات القوى الاستعمارية الكبرى أكثر من خدمة الشعوب العربية. وما كان يُنظر إليه يوماً كصمام أمان إقليمي تحوّل اليوم إلى جهاز إداري بيروقراطي مستهلك، تُدار قراراته وفق أجندات خارجية.غياب المشروع العربي الموحد والاستراتيجيات الواقعية جعل المنطقة مفتوحة لتدخلات غير عربية. إسرائيل عززت نفوذها في فلسطين والجنوب السوري والجنوب اللبناني، فيما تمدد الحضور الإيراني والتركي في العراق وسوريا ولبنان واليمن. النتيجة كانت فراغاً استراتيجياً عربياً لم يعد خافياً على أحد.إن التطورات الراهنة عمّقت هذا الفراغ؛ حرب الإبادة على غزة كشفت عجز الدول العربية عن صياغة موقف موحد أو ممارسة ضغط فاعل لوقف المجازر، فيما واصلت بعض العواصم مسار التطبيع مع إسرائيل في مفارقة فاضحة.أما استهداف قطر فجاء ليظهر أن التضامن العربي لم يعد أكثر من قشرة شكلية، وأن بعض مكونات النظام تفضّل الاستقواء بالخارج على قبول استقلالية أي طرف داخله.هذا المسار يسرّع تفكيك ما تبقى من النظام الرسمي العربي، ويؤكد أن البنية الحالية لم تعد قادرة على الصمود.والسبب الأعمق أن مشروع تفكيك المنطقة وإعادة تركيبها يتصادم جذرياً مع طبيعة النظام الرسمي العربي. فالتقسيم الجغرافي والديمغرافي الذي أفرز الكيانات العربية في زمن سايكس–بيكو وما قبله، لم يعد يلبّي متطلبات القوى الغربية اليوم؛ لذا تعمل على فرض تقسيم إثني وعرقي وطائفي يفرز كيانات صغيرة وضعيفة، مرتبطة عضوياً بإسرائيل بوصفها القلعة المتقدمة للغرب وحاملة طائراته في المنطقة وسط صراع دولي محموم على السيطرة عليها بمختلف وسائل القوة الناعمة والخشنة.أمام هذا الواقع، لا يملك النظام الرسمي العربي إلا خيارين: إما المضي في إصلاحات داخلية عميقة تعيد بناء المؤسسات وتؤسس لقرارات مستقلة، أو الاستسلام لفراغ استراتيجي طويل الأمد تتحكم فيه القوى الخارجية بمصير المنطقة وكياناتها وإعادة رسم خريطتها.إن القدرة على استعادة دور عربي مؤثر، وحماية المنطقة من مختلف أشكال الاستعمار وأدواته، باتت مرهونة بقرارات مصيرية لا تحتمل التأجيل، في ظل محرقة غزة، واستهداف قطر أخيراً، وتراجع السيادة الوطنية إلى حدودها الدنيا.النظام الرسمي العربي يحتاج، الآن وليس غداً، إلى مراجعة حقيقية ومكاشفات صريحة تستكشف مواطن الخلل والتحديات وعوامل الضعف، وتستثمر بعمق في عناصر القوة، وتعيد صياغة العلاقة بين الأنظمة وشعوبها، وتقدّم المصلحة القومية على المصالح القُطرية الضيقة، قبل أن نكتشف أنه "ولات حين مناص".
السعايدة يكتب: هل استنفد النظام الرسمي العربي مبررات وجوده؟
راكان السعايدة
نقيب الصحفيين الأردنيين السابق
السعايدة يكتب: هل استنفد النظام الرسمي العربي مبررات وجوده؟

راكان السعايدة
نقيب الصحفيين الأردنيين السابق
نقيب الصحفيين الأردنيين السابق
مدار الساعة ـ