بعد صباح الحادي عشر من سبتمبر 2001 – الذي صادف تاريخه اليوم- اكتشفت الولايات المتحدة أن المحيط الأطلسي الذي طالما اعتقدته عزلة واقية لم يعد موجودا، صارت حدود ذلك العالم الجديد بلا معنى أمام طائرات مدنية تحولت إلى صواريخ ضربت قلب نيويورك وواشنطن، وكان ذلك اليوم سقوطا للوهم الكبير بأن العالم البعيد لا يصل إلى الداخل الأميركي، ومنذ تلك اللحظة بدأت السياسة الأميركية تتشكل على قاعدة جديدة عنوانها أن الدفاع عن الداخل لا يتحقق إلا عبر السيطرة على الخارج.
خرجت أميركا من تلك اللحظة بملامح إمبراطورية كاملة، غزت أفغانستان ثم العراق، أعادت تعريف الحلف الأطلسي بما يتجاوز أوروبا، وصارت السياسة الخارجية مشبعة بروح عسكرية تبرر الضربات الاستباقية وتوسع مفهوم الأمن القومي ليشمل أقاليم بعيدة، كان ذلك تحولا ضخما في العقل السياسي الأميركي الذي بدأ يرى نفسه وصيا على النظام الدولي كله.لكن العالم لم يتوقف عند ذلك المشهد، السنوات التالية جاءت بمتغيرات كبرى، الصين تمددت كقوة صاعدة، روسيا عادت إلى المسرح، والشرق الأوسط انفجر بأزمات متلاحقة، وبينما حاول الأميركيون الحفاظ على إرث التفوق الإمبراطوري كانت الوقائع تكشف عن تآكل بطيء في القدرة على التحكم بالمشهد العالميمع وصول دونالد ترامب إلى الحكم عام 2017 بدا وكأنه يريد كسر إرث ما بعد 11 سبتمبر عبر شعار أميركا أولا، أراد تحويل الإمبراطورية العسكرية إلى شركة عملاقة تبيع الحماية وتقبض الثمن، فانسحب من التزامات مكلفة، وأعاد تعريف الحلفاء من زاوية المنفعة الاقتصادية، كما أدخل لغة المال والصفقات إلى قلب الدبلوماسية، لكنه في الجوهر لم يخرج من منطق أن أميركا هي المركز، بل أعاد صياغة الفكرة بروح رجل الأعمال لا بروح الإمبراطور العسكري.وحين عاد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2025 وجد عالما أكثر تعقيدا، حرب أوكرانيا وروسيا مستمرة، والصين أكثر حضورا، أما الداخل الأميركي فأكثر انقساما، والشرق الأوسط يعيش حربا مفتوحة في غزة.آخر التداعيات المتلاحقة والمتسارعة كانت نوعية في الجوهر، ففي التاسع من سبتمبر (أول من أمس) قصفت إسرائيل قلب الدوحة مستهدفة قيادة حماس وهي تبحث مقترحا أميركيا للتهدئة، وكانت الضربة صفعة سياسية لواشنطن، إذ وجدت نفسها أمام صورة دولة عظمى منقسمة، مؤسساتها التقليدية تريد الحفاظ على النظام الدولي وضبط الحلفاء، بينما رئيسها يتعامل مع السياسة الخارجية كصفقة يومية لا كإستراتيجية طويلة الأمد.فقدان الانسجام الداخلي هو جوهر التحول، ففي 2001 كانت أميركا كلها على قلب واحد، أما اليوم فهي دولة مشروخة، مؤسساتها تقول شيئا ورئيسها يقول شيئا آخر، وهذا لا يعني أن قوتها تراجعت، لكنه جعلها قوة مترددة، عاجزة عن تقديم خطاب واحد متماسك للعالم، الحلفاء والخصوم يقرأون هذا الانقسام ويستثمرون فيه، ما يكشف أن ما سقط في 11 سبتمبر لم يكن البرجين فقط، بل امتد عبر الزمن إلى اليوم ليرسخ فكرة وهم الجغرافيا ووهم الانسجام الذي صار بعيدا عن واقع صناعة القرار في واشنطن.
الدوحة 2025: ارتداد 11 سبتمبر 2001
مدار الساعة (الغد الأردنية) ـ