منذ سنوات طويلة رسّخت قطر موقعها كوسيط فاعل في النزاعات الإقليمية والدولية. لم يكن ذلك مجرد خيار دبلوماسي عابر، بل سياسة راسخة بنتها الدوحة على قاعدة من المرونة السياسية والقدرة على بناء الجسور مع أطراف متخاصمة، بدءًا من أزمات السودان ولبنان مرورًا بملف طالبان وصولًا إلى القضية الفلسطينية.
ومع اندلاع الحرب في غزة، تصدّرت قطر من جديد واجهة المشهد، إذ قادت المفاوضات المعقدة بين إسرائيل وحركة حماس برعاية أميركية ومصرية، ساعية إلى وقف إطلاق النار وضمان الإفراج عن الأسرى.غير أن الضربة الجوية الإسرائيلية التي استهدفت الدوحة يوم التاسع من سبتمبر 2025 كانت صادمة بكل المقاييس. فهي لم تكن مجرد هجوم عسكري على قيادات فلسطينية مقيمة في قطر، بل رسالة سياسية مباشرة إلى الدولة التي تُعرف بأنها بيت التفاوض ومقر الوساطة. استهداف العاصمة القطرية يعني استهداف “المكان الذي تُعقد فيه الخيوط وتُحل فيه العقد”، في محاولة واضحة لتعطيل المسار الدبلوماسي وإفراغه من مضمونه.لقد أرادت إسرائيل من خلال هذا الهجوم أن تقول إنها لا تبحث عن وقف للحرب، بل عن إطالتها وإدامة عجلة الصراع. فالضربة جاءت بينما كانت النقاشات جارية حول مقترح لوقف إطلاق النار، الأمر الذي يجعلها ضربة ليس فقط لمكان أو لأشخاص، بل لجوهر فكرة الحل السياسي نفسها. الرسالة باختصار أن الحرب بالنسبة لإسرائيل لم تعد أداة لتحقيق تسوية، بل غاية بحد ذاتها، وأن أي مسار يهدد بوقفها يُنظر إليه كتهديد يجب القضاء عليه.هذا الاستهداف يكشف أيضًا أن قطر لم تعد مجرد وسيط محايد في نظر تل أبيب، بل طرفًا مؤثرًا قادرًا على قلب موازين اللعبة السياسية. فهي الدولة الصغيرة جغرافيًا، الكبيرة دبلوماسيًا، التي تملك شبكة علاقات متشابكة تسمح لها بالوصول إلى جميع الأطراف. ومن هنا، فإن ضربها يعني محاولة تحجيم دورها، بل ومعاقبتها على إصرارها على دفع عجلة التفاوض.لكن المفارقة أن الضربة، بدلًا من إضعاف موقع الدوحة، أكسبتها شرعية إضافية. فالمواقف الدولية من الأمم المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي مرورًا بتركيا وبريطانيا والفاتيكان، أجمعت على إدانة الانتهاك الخطير للسيادة القطرية، وأكدت أن ما جرى تهديد مباشر لجهود الوساطة وعرقلة لمسار السلام. بهذا المعنى، فإن ما أرادته إسرائيل كرسالة قوة، تحوّل في الواقع إلى إدانة دولية تفضح نواياها في إفشال الحلول السياسية.لقد أثبتت قطر في هذه اللحظة أنها دولة العقد والحل: تعقد الخيوط عندما يتعذر التفاهم، وتبحث عن الحل عندما ييأس الآخرون من التفاوض. استهدافها لن يوقف دورها بل سيزيد من قناعة المجتمع الدولي بأهمية استمرار وساطتها. أما إسرائيل، فقد بعثت من خلال الضربة برسالة واضحة مفادها أنها لا تريد أن تتوقف الحرب، وأنها تفضّل منطق القوة على منطق السياسة. غير أن هذه الرسالة تكشف في الوقت ذاته مأزقها: فحين تُقصف الدبلوماسية نفسها، يصبح العالم أكثر اقتناعًا بأن لا مخرج من دوامة العنف إلا عبر التفاوض الذي طالما دعت إليه قطر .