لم تعد قضية الآليات الحكومية شأناً ثانوياً في بنية الدولة، بل تحولت إلى ملف ثقيل يرهق الموازنة العامة ويستنزف الإيرادات في بنود صيانة متكررة ومتراكمة. هذه الآليات التي خدمت لسنوات طويلة، وتجاوز بعضها عمره التشغيلي والزمني، أصبحت اليوم رهينة فاتورة صيانة باهظة تفوق قيمتها أحياناً قيمة الآلية ذاتها، ما يفتح الباب واسعاً أمام تساؤلات مشروعة حول جدوى هذه النفقات وآليات ضبطها.
إن ارتفاع تكاليف الصيانة يرتبط بعوامل متشابكة؛ فالأعمار الافتراضية للآليات تجاوزت الحد الطبيعي، وقطع الغيار تتأثر بتذبذب الأسعار والضرائب العامة، بينما يظل بند الفواتير أكبر الثغرات التي قد ينفذ منها التلاعب، فتتحول العملية من خدمة لوجستية إلى عبء مالي ينهش جسد الموازنة. وهنا يبرز السؤال: أليس من الأولى أن نعيد النظر في فلسفة صيانة هذه الآليات؟ أليس من الأجدى أن نبتكر آلية وطنية تحفظ المال العام وتحكم الرقابة على هذا الملف؟إنني أقترح على دولة الرئيس أن يُصار إلى إبرام اتفاق مؤسسي مع القوات المسلحة الأردنية والأمن العام لتولي ملف صيانة الآليات الحكومية، فهؤلاء يمتلكون الكوادر المؤهلة، والورش المتخصصة، والخبرة المتراكمة في التعامل مع المركبات العسكرية والأمنية على اختلاف أنواعها. ومما يعزز جدوى هذا التوجه أن مشاغل القوات المسلحة والأمن العام منتشرة في مختلف محافظات المملكة، ما يضمن سهولة الوصول وسرعة الإنجاز، مع فتح المجال أمام تشغيل خرّيجي مؤسسة التدريب المهني في هذه الورش، بما يعنيه ذلك من تخفيف واضح لمعدلات البطالة، وإيجاد فرص عمل حقيقية ومستدامة للشباب، وتمكينهم من مهن يحتاجها سوق العمل بصفة دائمة، فيتحقق بذلك بعد اقتصادي واجتماعي يوازي في أهميته بعد ضبط النفقات.إدماج هذه المنظومة في ملف الصيانة لا يعزز فقط كفاءة الأداء، بل يضمن ضبط الكلف والحد من التلاعب بالفواتير، إذ سيجري العمل تحت مظلة مؤسسية منضبطة، وبمعايير مهنية عالية، وبأجور أقل من السوق. وهنا تتجلى الفوائد مضاعفة، فإلى جانب حماية المال العام عبر تخفيض الكلف المباشرة وغير المباشرة للصيانة، وتعزيز الشفافية ومنع أي هامش للتلاعب أو تضخيم الفواتير، نجد أنفسنا أمام مكسب اجتماعي حقيقي يخفف البطالة ويحوّل أعداداً من شبابنا إلى طاقات إنتاجية ترفد الاقتصاد الوطني.إن الملف لم يعد يحتمل التأجيل، فالمسألة ليست مجرد براغٍ تُشد أو محركات تُصلح، بل هي انعكاس مباشر على فلسفة إدارة المال العام. وهنا أتوجه بنداء صريح إلى دولة الرئيس: إن دمج القوات المسلحة والأمن العام في هذا الدور سيشكل خطوة إصلاحية عميقة، لا تقل أهمية عن أي إصلاح سياسي أو اقتصادي، لأنها تكرّس مبدأ سيادة الدولة على تفاصيلها، وتحمي مواردها من التبدد، وتؤكد أن كل مرفق عام في الأردن يجب أن يُدار بمنهجية تكاملية تحفظ الكفاءة وتكرس النزاهة، وتعيد للشباب الأمل بأن دولتهم قادرة على فتح أبواب العمل الشريف لهم في ميادين يحتاجها الوطن.
الزعبي يكتب: الآليات الحكومية بين نزيف الصيانة وحتمية الإصلاح المؤسسي
مدار الساعة ـ