أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات وظائف للأردنيين مجتمع أحزاب مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف شهادة جاهات واعراس مناسبات مستثمرون جامعات بنوك وشركات دين اخبار خفيفة رياضة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

صناعة الغضب.. الهندسة من الاحتقان إلى الاستثمار


الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق

صناعة الغضب.. الهندسة من الاحتقان إلى الاستثمار

الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
مدار الساعة ـ

من يتأمل هشاشة الشارع العربي خلال العقود الماضية يرى كيف تشكل الغضب الشعبي كطاقة خام تتغذى من الإحباط الاقتصادي، وتُصاغ عبر لغة اجتماعية متوارثة. الغضب ليس صدفة؛ بل صناعة معقدة، يتغذى على الفقر، والبطالة، والتفاوت الطبقي، وسياسات مرتبكة، ونخب تتحدث باسمه لكنها بعيدة عن نبضه، وأحزاب ايدولوجية تحول الأوجاع إلى أوراق ضغط سياسية.

اليوم، الأردن يكتشف أن الغضب لم يعد شعورًا عابرًا، بل صناعة متكاملة بأدوات داخلية وخارجية. فهو حصيلة سياسات اقتصادية غير متسقة، وقرارات مؤجلة، ونخب غير موثوقة. الأرقام وحدها تكشف حجم التراكمات، الدين العام يتجاوز 114% من الناتج المحلي الإجمالي، استثمارات تم الوعد بها، ولم تنفذ، ومشاريع معلقة او لم ترى النور، بطالة تصل إلى ارقام قياسية، ونسب فقر يعلن عنها، لا تعكس الواقع. هذه ليست نتائج إحصاءات للنشر فقط، بل تشكل وقوداً لصناعة الغضب.

الفلاسفة عبر التاريخ لم يخفوا خطر الغضب. سينيكا حذر من ان "الغضب إذا لم يُكبح صار جنونًا"، ودوستويفسكي كتب "الشعب يغضب حين يُحرم من العدالة"، وعاد وحذّر من أن "الغضب المكبوت هو أكثر ما يُفسد روح الإنسان"، وهو ما نراه اليوم حين يتخذ الغضب شكل انسحاب صامت للشباب من الحياة العامة، أو انجراف البعض وراء شعارات أيديولوجية عابرة للحدود.

في الأردن، الغضب الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يتقاطع مع إحساس عميق بعدم العدالة، وكما أشار توكفيل "أن أخطر لحظة تمر بها الدول ليست حين تكون الأوضاع في قاع الانهيار، بل حين تبدأ الشعوب تتوقع التغيير فلا تجده"، ويصبح عندها أكثر تعقيدًا. وهذا ينطبق على الحالة الأردنية، الشارع يريد إصلاحًا ملموسًا، بينما النخب السياسية التقليدية تكتفي بتدوير ذات الخطاب، فتتحول إلى ما يشبه طبقة عازلة بين رؤية ملكية طموحة وشعب يثق بالملك.

جزء من صناعة الغضب يتمثل في استغلال الأحزاب الأيديولوجية للمزاج الشعبي، خاصة الشباب العاطلين عن العمل، وذوي التعليم المتراجع (باعتبارهم وقوداً سهلاً)، والذين يجدون في الأحزاب الايدولوجية، التي تخاطبهم بلغة عاطفية (الهوية والدين)، او اليسار الراديكالي، الذي يرى في الازمات فرصة لإعادة تدوير خطاب الثورة والطبقية. جميعها تتعامل مع الغضب الشعبي كخزان طاقة، يمكن تحويله إلى مكاسب سياسية وضغوط انتخابية.

الخطورة تكمن في أن هذه الايدولوجيات لا تقدّم حلولًا عملية، بل تعيد إنتاج الانقسامات، وكما يقول غرامشي "القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض مرضية".

وجهات نظر زعماء العالم تعزز هذا التحليل، فالرئيس أوباما قال إن "الغضب لا يمكن أن يكون أساساً للحكم، لكنه قوة يمكن توجيهها نحو التغيير الإيجابي"، والمستشارة ميركل أشارت إلى أن الشباب المتأزم مؤشر على حاجة الدولة لتجديد ثقة الناس. من هنا يمكن لنا ان نستخلص ان الغضب يمكن أن يصبح أداة إصلاح حقيقية إذا أُحسن توجيهه، عبر سياسات متماسكة وقيادات تنفيذية مسؤولة تحقق رؤى الملك وطوح المجتمع.

لكن المخاطر تتضاعف حين تقف بعض النخب في موقع المتفرج، وهي غير مقبولة شعبياً، وتقدم الوصفات الفاشلة نفسها، وتعيد إنتاج الإخفاقات، وتقدم حلول أشبه بالمسكنات، وتستمد قوتها من قربها من بعض مراكز القرار، فتتحول إلى عازل بين الدولة والمجتمع، وتراهن على إدارة الوقت بدل إدارة الغضب، متناسية أن كل تأجيل يولد احتقانًا جديدًا، وأن كل وعود بلا تنفيذ تصبح مادة خام لمصانع الغضب. كما أن الشارع لم يعد يشتري ذلك، فالجوع والبطالة والخذلان السياسي أقوى من كل خطابات التجميل التي يقدمونها.

الأمر لا يقتصر على الداخل، إذ تستغل قوى إقليمية ودولية متربصة هذا الاحتقان لتحقيق مصالحها عبر تضخيم الأزمات أو توجيهها عبر منصات إعلامية تبالغ في تضخيم الأزمات، وترى في اهتزاز الداخل فرصة لها لإعادة رسم التوازنات، وهنا يصبح المواطن العادي ضحية مزدوجة بين نخب عاجزة وأجندات خارجية انتهازية.

وسط هذا المشهد، يبقى الملك صاحب الشرعية الدينية والتاريخية والدستورية، الفاعل السياسي الوحيد القادر على احتواء الغضب الشعبي. خطابات الملك ركزت على الإصلاح السياسي والاقتصادي وتمكين الشباب، ومحاربة الفساد، وتحويل الإصلاح إلى واقع ملموس.

الملك، الذي يعمل على كيفية تجاوز التغيرات والانقسامات الدولية المتسارعة، والتحديات الإقليمية، ونار الجغرافيا، لحماية مصالح الأردن الكبرى، ويوجه ويطرح المبادرات الملكية كخارطة طريق لمستقبل الدولة.

التناقض الخطير، يظهر بين إرادة ملكية للإصلاح مقابل بطء أو مقاومة من مستويات أدنى، وأحيانًا مصالح شخصية تحجب تنفيذ المبادرات الوطنية، وتعمل على تُفريغها من مضمونها، بفعل بعض المسؤولين (أصحاب المظلومية الذكية)، او الذين يمنحون صكوك الغفران للبعض او يحجبوها عن اخرين من منطلق مواقف شخصية مسبقة، وبحجج (لديه الكفاءة الا انه بكير عليه، او غير مناسب للمرحلة، وغيرها). مما يجعل البعض يميل الى حالة اللامبالاة، والشارع يزداد توتراً، ومنتظرًا خطوات ملموسة لإثبات جدية الدولة في تغيير المعادلة، وتوظيف الاحتجاج الذكي وفق عقد اجتماعي جديد، كما يريده الملك.

التجارب التاريخية تثبت أن صناعة الغضب، هي أخطر الصناعات في منطقتنا، وأدواتها ليست مصانع وآلات وخطوط انتاج، بل سياسات مترددة، وإدارة مرتجفة، وفساد مزمن، وبعض النخب المفصولة عن الناس، وخطاب إعلامي يعيش في قطيعة مع الواقع.

في النهاية، تبقى الحقيقة المرّة، الغضب يُصنع حين يُترك الناس بلا أفق، ويُستثمر حين يصرّ الفاشلون على البقاء في الواجهة، ويُفجَّر حين لا يعود للشعوب ما تخسره، ومن يعتقد أنه قادر على التحكم بهذه الصناعة إلى الأبد يخطئ التقدير. الا انه ومع كل ذلك، يمكن ان يصبح وقوداً رائعاً للنهضة.

لكن المسألة الجوهرية، من يملك مفاتيح تحويل الغضب من طاقة سلبية إلى قوة بناء؟ التاريخ يثبت أن الملوك وحدهم قادرون على احتواء الغضب الشعبي وتحويله إلى مشروع وطني للنهضة، وهم من يتركون بصمتهم في مستقبل الدولة.

مدار الساعة ـ