أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات وظائف للأردنيين مجتمع أحزاب مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية الموقف شهادة جاهات واعراس مناسبات مستثمرون جامعات بنوك وشركات دين اخبار خفيفة رياضة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

أبو نوار يكتب: إنه الأردن يا سادة


حمزة ابو نوار

أبو نوار يكتب: إنه الأردن يا سادة

مدار الساعة ـ

وهل يخفى القمر؟ إننا أمام نماذج سياسية لا تتقن من العمل الحزبي سوى فنون الضجيج والصراخ، يظنون أن الشتيمة برنامج، وأن البيان المليء بالاتهامات رؤية. يتحدثون عن المدنية وهم أبعد ما يكونون عنها، كأنهم يعرضون علينا مسرحية رديئة التمثيل ركيكة النص، جمهورها الوحيد هو مرآتهم، وصفقاتهم الوحيدة هي أوهامهم.

في المشهد السياسي الأردني، يطل علينا بين الحين والآخر بعض الأصوات التي تدّعي حمل همّ الوطن والحرص على مستقبله، لكنها ما تلبث أن تنزلق إلى مساحات ضيقة من الحسابات الشخصية أو النزعات الفردية. مثل هذه الأصوات، مهما ارتدت من شعارات براقة أو استحضرت من لغة خطابية، تكشف سريعًا عن خلل جوهري في الشخصية السياسية التي لا تقوى على التمييز بين المصلحة العامة والمكاسب الذاتية.

إن الخلل لا يتمثل في الاختلاف بحد ذاته، فالاختلاف سنة سياسية صحية، وإنما في الكيفية التي يُدار بها هذا الاختلاف، وفي الأهداف التي يتغياها من يقف وراءه. فحين يُصبح الغضب الشخصي موجهًا على شكل بيانات واتهامات، وحين تتحول ساحات العمل الحزبي إلى منابر للتشهير والخصومات، فإننا نكون أمام نموذج سياسي عاجز عن تمثيل روح التوافق الأردني الذي عُرف عبر تاريخه الطويل.

هناك من يظن أن بناء حضوره في المشهد يتم عبر كسر الآخر أو تشويه صورته، غير مدرك أن هذا السلوك لا يفضي إلا إلى عزلة أوسع وخسارة أعمق. الشخصية السياسية الحقيقية تُقاس بقدرتها على الصبر والحوار والتمسك بالثوابت الوطنية الجامعة، لا بانفعالها أو انجرافها وراء نزوات لحظية. الأردن يا سادة، أكبر من كل الأسماء والشخصيات، وأبقى من كل النزاعات العابرة.

لقد جُبلت الحياة السياسية الأردنية على فكرة التوازن، وعلى البحث الدائم عن نقطة الوسط التي تحفظ استقرار الدولة وتماسك المجتمع. وحين يحاول البعض أن يجعل من الحزب ساحة تصفية حساب أو مساحة لتكريس الذات، فإننا أمام انحراف عن جوهر الفعل الحزبي الذي وُجد ليكون أداة للبناء، لا مطرقة للهدم.

إن ما يلفت الانتباه في هذا السياق أن بعض الوجوه التي تدّعي المدنية تتبنى في واقع الأمر سلوكيات مناقضة لها. فبدلًا من أن تمثل قيم التسامح والالتزام المؤسسي، نجدها تمارس خطابًا إقصائيًا، مليئًا بالاتهامات والتوصيفات التي لا تستند إلى منطق ولا إلى حكم قانون. هذه الازدواجية تكشف عن أزمة عميقة في فهم معنى الديمقراطية ذاتها، فالديمقراطية ليست مجرد شعارات، بل التزام عملي بالتوافق والاحتكام إلى المؤسسات.

الأردن، وهو يمضي في مشروع تحديثه السياسي، لا يحتاج إلى شخصيات تثير الجدل أكثر مما تقدم من برامج. لا يحتاج إلى من يرفع صوته في الخصومة أكثر مما يرفع من سقف الإنجاز. بل يحتاج إلى قوى سياسية ناضجة، تعرف أن الخلاف وسيلة للإثراء لا للتدمير، وأن الوطن أكبر من كل نزاع داخلي أو حسابات فردية.

إننا اليوم بأمسّ الحاجة إلى عقل سياسي يزن كلماته قبل أن ينطق بها، وإلى شخصية تضع الأردن في مقدمة اهتماماتها، لا أن تضع ذاتها في مقدمة المشهد. وقد علّمتنا التجربة الأردنية أن الذين يبحثون عن مجد شخصي عابر، سرعان ما تنساهم الساحة، بينما يبقى من التزموا بخدمة الوطن بهدوء وبلا ضجيج.

إن بناء حياة حزبية سليمة لا يكون بتضخيم الأنا أو صناعة الخصومة، بل بالتواضع السياسي والقدرة على مد الجسور. حين يتوقف بعض السياسيين عن استخدام المنابر للإساءة والتشهير، ويبدأون باستخدامها للتقريب والحوار، عندها فقط نكون قد خطونا خطوة حقيقية نحو المستقبل الذي نطمح إليه جميعًا.

الأردن يا سادة، لا يقوم على الانفعالات ولا على النزاعات الصغيرة. إنه بلد مؤسسات، بلد قيادة حكيمة وشعب يعرف كيف يحمي استقراره وسط العواصف. ومن أراد أن يكون جزءًا من هذا المشروع الوطني، فعليه أن يضع مصلحة الأردن قبل أي اعتبار، وأن يتذكر دائمًا أن قيمة السياسي ليست بما يثيره من ضوضاء، بل بما يقدمه من حلول.

إن اللحظة الراهنة تستدعي من كل القوى الحزبية أن تتجاوز انقساماتها وأن تنضج في خطابها، فالزمن لم يعد يسمح بالمزيد من التشتت. العالم يتغير من حولنا بسرعة، والأردن بحاجة إلى أحزاب قوية متماسكة، لا إلى أفراد يجرّونها إلى صراعات جانبية. إن ما يهدد العمل الحزبي ليس غياب الشعارات، بل غياب الوعي بأن الحزب هو وسيلة للتوافق الوطني لا أداة للخصومة.

ختامًا، نقول: إنه الأردن يا سادة. وطن يستحق من أبنائه أن يرتقوا إلى مستوى تاريخه وحاضره ومستقبله، لا أن ينشغلوا بصراعات تستهلك طاقاتهم وتضعف صورتهم أمام الناس. الأردن بحاجة إلى ساسة عقلاء، يدركون أن التوافق قوة، وأن الخلاف إذا لم يُدار بحكمة يتحول إلى معول هدم. فلنضع الوطن أولًا، ولنجعل التوافق قاعدة، عندها فقط نصنع حياة حزبية تليق بالأردن الذي نحب ونفخر به.

مدار الساعة ـ