منذ أن دوّى الانفجار الكبير في السابع من أكتوبر، بدت الأسئلة أعمق من الحدث ذاته: كيف يمكن لكيان محاصر منذ سنوات طويلة أن يتخذ قرارًا بهذا الحجم، وهو يدرك أن الرد سيكون مدمِّرًا؟ أهو انتحار شامل، أم إعلان ميلاد جديد؟
في علم الاجتماع والفلسفة السياسية، هناك لحظات تصل فيها الكُتلة البشرية إلى قناعة أن استمرار العيش داخل منظومة القهر ليس إلا موتًا بطيئًا. عندها يتحول الفعل العنيف إلى محاولة للحياة، لا إلى مغامرة عابرة. إنه تعبير عن وعي تراكمي يرى أن التضحية بالجسد أقل فداحة من التضحية بالمعنى.هكذا يبدو ما يراه المراقب الخارجي انتحارًا، بينما تراه المقاومة فعل بقاء. إنها معادلة مقلوبة: الاستمرار في الحصار موت، والموت في التمرّد حياة.الثورات الكبرى في التاريخ لم تُولد من وفرة الأمل، بل من فائض اليأس. عندما يصل الناس إلى لحظة يصبح فيها الحاضر خانقًا حدّ الاختناق، فإنهم يفجّرونه ليصنعوا أفقًا جديدًا. ليس لأن الأفق مضمون، بل لأن استمرار الحاضر لم يعد ممكنًا.إن الفعل الثوري هنا لا يُقاس بجدواه العسكرية أو السياسية المباشرة، بل بقدرته على إعادة تعريف الذات. حين ترفع المقاومة السلاح، فإنها لا تواجه خصمها فقط، بل تواجه العدم الذي حوّلها إلى كيان غير مرئي على خريطة العالم.أحيانًا ينتصر الخصم بالنار والحديد، لكن الفعل الرمزي يُربك ميزان الشرعية. فالآلة العسكرية قد تُخضع الأجساد، لكنها لا تستطيع أن تمنع سقوط الأقنعة. وحين تنكشف حقيقة القوة الغاشمة، تبدأ معركة الشرعية بالانقلاب: من سلطة تبرر وجودها إلى كيان يُرى باعتباره أداة للإبادة.التاريخ مليء بالشواهد: جيوش سيطرت ميدانيًا ثم انهارت عندما سقطت أخلاقيًا أمام أعين العالم. فالموت في ساحة القتال يمكن أن يكون بداية حياة في ذاكرة الإنسانية.الصرخة التي انطلقت لم تكن مجرد تمرّد عسكري، بل رفضًا فلسفيًا للعدم. لم تعد المقاومة تقبل أن تكون مجرد موضوع لإدارة الأزمات أو أرقامًا في تقارير المساعدات. لقد تحوّلت إلى ذاتٍ تصرخ: "نحن هنا".بهذا الشكل، يتجاوز الفعل حدوده المباشرة، ليغدو حدثًا يعيد ترتيب الخريطة الرمزية للعالم. فالدم لم يكن مواجهة مع عدو فحسب، بل أيضًا مواجهة مع حالة التهميش، مع ذلك الوضع الذي جعل الناس غير مرئيين في وعي البشرية.ربما يراها البعض خطوة انتحارية. لكنها، في سياقها الفلسفي، أقرب إلى نهضة وجودية. إنها رفض لأن يتحول الإنسان إلى كائن بيولوجي ينتظر الموت في صمت، وإصرار على أن الكرامة تسبق البقاء.إنه اختيار بين موتين: موت بطيء في السجن الجماعي، أو موت صاخب يفتح أبواب التاريخ. وكان الخيار واضحًا: أن يكون الوجود صرخة، حتى لو كان ثمنها الفناء الجسدي.
الكابتن شقمان يكتب: طوفان الأقصى.. الفعل بين اليأس والوجود
مدار الساعة ـ