في الثاني عشر من ربيع الأول، يقف المسلمون في أنحاء العالم أمام ذكرى خالدة، ليست مجرد يوم في التقويم، بل هي ولادة النور الذي أضاء دروب الإنسانية. ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن حدثًا عابرًا، بل كان بداية لثورة إنسانية وروحية غيرت مجرى التاريخ. ففي وقت كانت فيه الجزيرة العربية غارقة في الصراعات القبلية، والظلم الاجتماعي، والجهل الفكري، جاء هذا المولود ليحمل رسالة الرحمة، العدل، والحرية، ويعيد صياغة مفهوم الحياة على أسس من القيم السامية.
نور يتجدد في كل زمانالمولد النبوي الشريف لا ينتمي إلى الماضي فحسب، بل هو ذكرى حيّة تتجدد في كل زمان. فالمعاني التي جسدها الرسول صلى الله عليه وسلم ليست محصورة في عصر محدد، بل هي قيم عالمية صالحة لكل العصور. عندما نستحضر هذه المناسبة، نحن لا نحتفل بذكرى ولادة إنسان فقط، بل نحتفي بميلاد رسالة إنسانية عظيمة، رسالة جعلت من الرحمة لغة، ومن العدل أساسًا، ومن الأخوة الإنسانية رابطة تتجاوز الحدود والاختلافات.في عالمنا المعاصر، حيث يزداد التباعد بين البشر بسبب الحروب والأزمات الاقتصادية والفكرية، تبدو الحاجة ملحة لإحياء هذا النور، واستحضار تلك القيم في تفاصيل حياتنا الفردية والجماعية. المولد النبوي ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو بوصلة قيمية تدلنا على الطريق الصحيح عندما تشتد ظلمات الواقع.الرسول والرحمة الشاملةحين نقرأ قوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} ندرك أن الرسالة المحمدية لم تكن مقصورة على المسلمين وحدهم، بل هي رحمة للعالمين بكل أطيافهم وأجناسهم ومعتقداتهم. لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجًا فريدًا في الرحمة: رحم الضعيف، نصَر المظلوم، عطف على الأيتام، ورفق بالنساء، حتى بالحيوانات والطبيعة.هذه القيم الخالدة تمثل دعوة مباشرة لنا اليوم: أن نتعامل مع بعضنا البعض بلغة الرحمة لا القسوة، أن نغرس في مؤسساتنا روح العدالة لا التمييز، وأن نعيد بناء مجتمعاتنا على أساس التكافل لا الأنانية. إن استحضار هذه القيم في حياتنا هو أعظم احتفال يمكن أن نقدمه في ذكرى المولد النبوي.قيم السيرة في واقعنا المعاصرإن السيرة النبوية ليست قصصًا تاريخية تُروى للتسلية، بل هي دروس عملية تصلح لتكون مرجعًا في حل مشكلاتنا المعاصرة. لقد أسس الرسول صلى الله عليه وسلم مجتمعًا متماسكًا، بني على:العدل: حيث ساوى بين الناس جميعًا في الحقوق والواجبات، فلا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.التسامح: فالتاريخ يشهد كيف عاش غير المسلمين في كنف الدولة الإسلامية مكرمين مصونين.العمل والإتقان: فقد رفع من شأن العمل الشريف، وجعل إتقان العمل عبادة توازي الصلاة والصيام.العلم والمعرفة: حيث كانت أول آية نزلت "اقرأ"، لتفتح الباب أمام حضارة اهتمت بالعلم والابتكار.إذا استطعنا اليوم أن نُحيي هذه القيم في مناهجنا التعليمية، في سياساتنا الاقتصادية، وفي علاقاتنا الاجتماعية، سنكون قد جسدنا فعليًا معنى الاحتفال بالمولد النبوي.رسالة للشباب العربيالشباب هم صناع المستقبل، وهم أكثر الفئات حاجة إلى استلهام دروس المولد النبوي. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في شبابه مثالًا على الأمانة والصدق والاجتهاد، وهو ما أكسبه لقب "الصادق الأمين". واليوم، يحتاج شبابنا إلى أن يقتدوا بهذا النموذج، ليواجهوا تحديات البطالة، الغزو الثقافي، والاضطرابات الفكرية بروح إيجابية وإبداعية.ذكرى المولد النبوي هي رسالة إلى الشباب بأن النجاح لا يأتي باليأس أو التواكل، بل بالإصرار والعمل الجاد، وأن القيادة ليست سلطة وإنما مسؤولية، وأن العظمة الحقيقية تُبنى على الصدق وخدمة الآخرين.الإعلام في خدمة الرسالةلا يخفى على أحد أن الإعلام هو أقوى أداة للتأثير في عصرنا. والمولد النبوي فرصة للإعلاميين والمثقفين ليعيدوا تقديم السيرة النبوية بلغة معاصرة، تُظهر عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد إنساني عالمي، لا فقط كرمز ديني. علينا أن نبرز للعالم أن الإسلام، من خلال نبيه، جاء رحمة لا إرهابًا، سلامًا لا عنفًا، بناءً لا هدمًا.إن من مسؤوليتنا كإعلاميين أن نُحوّل هذه المناسبة إلى منصة لبث رسائل إيجابية عن الإسلام وقيمه السامية، بعيدًا عن الصور النمطية المغلوطة التي تروج لها بعض الأطراف.المولد النبوي… دعوة للتجديدإن ذكرى المولد ليست مجرد احتفال بالماضي، بل هي دعوة للمستقبل. هي فرصة لأن نعيد النظر في علاقتنا بأنفسنا، بعائلاتنا، وبمجتمعاتنا. أن نسأل: هل نعيش القيم التي جاء بها الرسول؟ هل نعكس في تعاملاتنا مع الآخرين تلك الروح المحمدية القائمة على الرحمة والعدل؟الاحتفال الحقيقي لا يكون بالمظاهر فحسب، بل في أن نُترجم قيم الرسالة إلى سلوكيات عملية: في تعاملنا مع الفقير، في حرصنا على نشر العلم، في التزامنا بالصدق، وفي سعينا لخدمة الوطن والإنسانية.خاتمة: ميلاد متجدد للأملالمولد النبوي الشريف مناسبة تتجاوز حدود الاحتفال الزمني، لتصبح ميلادًا متجددًا للأمل في قلوبنا. ففي ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، وُلدت أمة، وفي رسالته خُطّت معالم طريق للبشرية. وما أحوجنا اليوم أن نعود إلى هذا النبع الصافي، لنستلهم منه القوة والرحمة معًا، فنصنع لأنفسنا ولأجيالنا القادمة عالمًا أفضل.فلنكن على قدر هذه الذكرى، ولنحوّلها من مجرد طقوس إلى سلوك عملي، نضيء به حياتنا ونرسم به صورة مشرقة لمستقبل تسوده الرحمة، العدالة، والإيجابية.
العشي يكتب: المولد النبوي الشريف… ميلاد الرحمة ورسالة تتجدد عبر الأزمان
مدار الساعة ـ