بين التمرير الصامت وصناعة الأثر
في عالمٍ تتكاثر فيه الشاشات كما تتكاثر المرايا، يعيش الطالب تحت وهجٍ لا ينطفئ؛ يمدّ أصابعه فيغرق في تيارٍ لا يعرف ساحلًا.ضغطة زرّ واحدة تكفي لتسقطه في دوّامة لا نهائية من مقاطع قصيرة وملخّصات وصور متلاحقة، تشبه أمواجًا متتابعة لا تمنحه فرصة لالتقاط أنفاسه.ما المقصود بالاستهلاك والإنتاج الرقمي؟الاستهلاك الرقمي: تفاعل الطالب مع محتوى جاهز دون إنتاج أثر أصيل (مشاهدة، تمرير، نسخ إجابة).الإنتاج الرقمي: إنشاء مخرَج أصيل موجّه لجمهور محدّد (فيديو تعليمي، تدوينة تحليلية، بودكاست، حملة توعوية)، يتضمّن قيمة معرفية قابلة للتحقّق.معيار الأثر: قابلية القياس (وصول، تفاعل نوعي، إعادة استخدام) مع الالتزام بالأخلاقيات الرقمية.الاستهلاك الرقمي: الوجه السهلتشير تقارير اليونسكو (2024) حول أنماط استخدام الشاشات لدى الفئة (12–18 عامًا) في العالم العربي إلى معدّل يومي يتراوح بين 4–6 ساعات، يذهب معظمها للاستهلاك السلبي أكثر من الإنتاج. وهذا يستدعي إعادة تصميم خبرات التعلّم بحيث تتحوّل “الدقائق على الشاشة” إلى دقائق مُنتِجة ذات قيمة.الاستهلاك الرقمي يتجسّد في:الاستماع لمقطع قصير يشرح درسًا،متابعة فيديو ترفيهي على "تيك توك"،أو البحث السريع في "جوجل" عن إجابة جاهزة.لا شك أن هذه الممارسات توفّر معرفة سريعة، لكنها تزرع التلقي السلبي وتضعف التفكير النقدي. وفرة المحتوى لم تؤدِّ بالضرورة إلى وفرة في الوعي؛ بل على العكس، قد أثقلت الذاكرة وأرهقت الانتباه، حتى غدا الطالب متخمًا بالمعلومات، جائعًا للفهم العميق.وتؤكد دراسات OECD (2023) أن الإفراط في الاستهلاك الرقمي مرتبط بانخفاض مستوى التركيز، وتراجع التحصيل الدراسي، وارتفاع نسب القلق الرقمي لدى المراهقين.لماذا لا يكفي "الإنتاج" بحدّ ذاته؟قد يتحوّل بعض الإنتاج إلى مطاردة “مؤشرات الغرور” (الإعجابات/المشاهدات) على حساب الدقة والمعنى. كما قد تظهر مخاطر: تمرير معلومات مضلّلة، تسييل الخصوصية، واستعمال أدوات توليدية بلا تحقق. لذلك نحتاج إنتاجًا أصيلًا وأخلاقيًا مؤطَّرًا بمعايير واضحة.الإنتاج الرقمي: الوجه الأقوىحين ينتقل الطالب من مستهلك إلى منتِج، تتغير المعادلة تمامًا.الإنتاج الرقمي ليس مجرد نشر صورة أو تسجيل مقطع عابر، بل هو فعل تربوي عميق يبني الهوية، ويُنمي الوعي، ويُطلق الإبداع.يمكن أن يتجسّد ذلك في:? إنتاج فيديو قصير يشرح مفهومًا علميًا.? كتابة تدوينة تلخّص تجربة تعلم شخصية.? إطلاق حملة توعوية رقمية تخدم قضية مجتمعية.? إنتاج مشترك يدمج مهارات القرن 21 (التواصل، التعاون، الإبداع، التفكير النقدي).سُلَّم التحوّل (وعي إلى نقد إلى تصميم إلى أثر)1. وعي: تحديد السؤال/المشكلة والجمهور.2. نقد: فحص المصادر وصياغة موقف.3. تصميم: اختيار نوع المخرج والمنصة.4. أثر: قياس الوصول والتفاعل النوعي والتغذية الراجعة.صندوق مهام إنتاجية سريعة (صفّية)علوم: فيديو 90 ثانية يشرح تجربة بسيطة عن الاحتباس الحراري.دراسات اجتماعية: خريطة تفاعلية لمسارات المياه في المحافظة.لغة عربية/إنجليزية: تدوينة تحليل نص قصير (250 كلمة) مع موقف شخصي موثّق.التوازن المطلوب: من الاستهلاك الواعي إلى الإنتاج المؤثرلسنا بصدد إلغاء الاستهلاك، فهو مدخل طبيعي للتعلم، لكنه يحتاج إلى توجيه. التربية الرقمية الرشيدة تعلّم أبناءنا التدرج:مستهلك واعٍ إلى مستهلك ناقد إلى منتِج بسيط إلى منتِج مؤثر.روتين صفّي 15 دقيقة5 دقائق مشاهدة موجّهة (سؤال مسبق)،4 دقائق نقاش نقدي في أزواج،3 دقائق تلخيص فردي قصير،3 دقائق تخطيط مخرج (عنوان، منصة، خطوة تالية).قالب التحويل من استهلاك إلى إنتاج (C إلى E):C = Consumption (استهلاك)E = Expression / Production (إنتاج)C1 مشاهدة موجّهة → C2 مناقشة نقدية → E1 تدوين (150 كلمة) → E2 مخرج مرئي قصير (≤90 ثانية).?دور المربين والمؤسساتهذا التحوّل لا يحدث تلقائيًا، بل يحتاج إلى تكامل أدوار:▫ المعلم: يفتح أمام طلابه مساحات للتجربة ويصمم مهامًا إنتاجية أسبوعية.▫ الأسرة: تنظّم وقت الشاشة وتطبق قاعدة "3-2-1": ثلاث فترات تواصل بلا شاشة، فترتان قراءة، محتوى منتج واحد أسبوعيًا يعرض على الأسرة.▫المؤسسة التعليمية: تنشئ منصة مدرسية داخلية ومعرض إنتاج شهري.▫ صانعو القرار: يدمجون الإنتاج الرقمي في التقييم الرسمي بنسبة (10–15%).▫ الجامعات وكليات إعداد المعلمين: تؤهل المعلم ليكون قائدًا رقميًا يمتلك أدوات الروبرك وأساليب التوجيه.روبرك الإنتاج المؤثر (1–4 درجات)الأصالة، الدقة، الأثر، الأخلاقيات.(يُعدّ العمل مؤثرًا إذا بلغ ≥3 في كل معيار).دروس من التجارب الدوليةأثبتت دول مثل فنلندا وكوريا الجنوبية أن دمج الإنتاج الرقمي في التقييم الرسمي، وبناء مجتمعات ممارسة للمعلمين، يسرّع التحوّل. والدروس المستفادة: ما لا يُقاس لا يستمر.ولنا في بعض المبادرات العربية (مثل منصات التعليم الإماراتية والسعودية) شواهد تؤكد إمكانية تحقيق إنتاج أصيل إذا توفرت السياسة التربوية الداعمة.?توصيات عملية للانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج ?على مستوى الطالب:▫استخدام ترفيهي ≤ 3 ساعات يوميًا.▫مخرج أصيل واحد/شهر على الأقل.▫تحقيق تفاعل نوعي (تعليق نقدي/إعادة استخدام) لمخرج واحد كل فصل.▫تحديث سجل تعلّم مرتين شهريًا. ?على مستوى المعلم:▫إدماج التفكير النقدي في الدروس.▫تصميم مهمة إنتاج مصغّرة أسبوعيًا.? على مستوى المؤسسة:▫إنشاء منصة مدرسية داخلية.▫تنظيم معرض إبداع رقمي شهري.? على مستوى المجتمع:▫شراكات مع مؤسسات إعلامية وتربوية لدعم مبادرات الطلاب.▫جوائز سنوية للإنتاج الرقمي الأخلاقي.? حقيبة أدوات إنتاجية موصى بها: Canva، CapCut، Audacity، OBS، Notion، Padlet. الشرط التربوي: لا يُستخدم أي أداة دون (سؤال موجّه + جمهور مستهدف + مقياس أثر).سياسة مختصرة لاستخدام الذكاء التوليدي1. الإفصاح عن الاستخدام.2. توثيق المصادر وعدم تمرير إجابات مولّدة كعمل أصيل.3. حماية البيانات الشخصية.4. احترام التراخيص والحقوق الرقمية.▫لسنا نخوض صراعًا مع الشاشات بقدر ما نبني معنىً على الشاشات. وحين يتحوّل الطالب من متلقٍّ صامت إلى صانع أثر، تتبدّل علاقة المدرسة بالعالم.المعادلة بسيطة: سؤال موجّه + تحقق نقدي + مخرج أصيل + قياس أثر = تعلّم ذو قيمة.فلنلتزم ابتداءً من الأسبوع القادم بأن يخرج كل متعلّم بمنتج واحد أصيل على الأقل، مُوثّق، أخلاقي، موجّه لجمهور حقيقي. عندها فقط سنقول: لم نُطِل زمن الشاشة… بل رفعنا قيمة الدقيقة.
البستنجي يكتب: التعليم الرقمي بين الاستهلاك والإنتاج
مدار الساعة ـ