رجع أيلول ذلك الشهر الذي يجيء محمّلاً بريحٍ لها رائحة الغياب، وورقٍ أصفر يتهاوى عن الأشجار العظيمة، يخيَّل إلينا أن المشهد إعلان نهاية، وأن الشجر قد تعب من حمل فصوله، غير أنّ الحقيقة أعمق من هذا الحزن العابر؛ فكل سقوطٍ في أيلول ليس موتاً، بل وعدٌ ببداية أخرى، وانبثاق حياةٍ جديدة من بين الرماد.
أيلول، أيها البعيد، لا يجيء إلّا ليقول لنا إن الكبار لا يرحلون، وإن من غرس جذوراً في الأرض والقلوب لا تنهيه العواصف ولا يذروه الخريف. الكبار يظلون قائمين شامخين في الذاكرة، وفي الوجدان، وفي الحكايات التي لا تموت.وكل ورقة صفراء تهوي في الطريق، إنما هي رسالة أن ما تبحث عنه ليس في الخارج، ولا في المناصب ولا في الأسماء التي نركض خلفها، بل في أعماقنا نحن، حيث تكمن البذرة الأولى للنور، أيلول يعلّمنا أن نعيد اكتشاف الداخل، أن ننصت لنبضنا لا لضجيج العالم، وأن نفهم أنّ الطريق إلى المعنى يبدأ من الذات.إنه الشهر الذي يلوّح بالنهايات، ليذكّرنا أن كل نهاية هي بداية متنكرة، وما بين ذبول الورق وولادة الأزهار، يتجلّى سرّ الحياة لا شيء يزول، بل كل ما يسقط يُهيّئ الأرض لما سيأتي، وكل غياب يُمهّد لحضور أوسع وأصدق.أيلول إذن ليس موسم الخسارة، بل بشارة الخير، وإشارة واضحة أن ما ننتظره أمامنا، وما نفتقده يسكننا، وما نظنّه ضاع لم يبرح مكانه، فقط نحن اختزلناه بمسمّى، بوظيفة، بظلّ زائل، بينما جوهره يضيء في الداخل، ينتظر أن نمدّ أيدينا لنلتقطه.
الحتاملة تكتب: أيلول.. النهايات التي تُنبت بدايات
مدار الساعة ـ