أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات مختارة تبليغات قضائية مقالات أسرار ومجالس مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة جامعات دين مغاربيات خليجيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

العشي يكتب: العودة إلى المدارس.. هل ما زال التعليم يصنع المستقبل العربي؟


الدكتور محمد العشي

العشي يكتب: العودة إلى المدارس.. هل ما زال التعليم يصنع المستقبل العربي؟

مدار الساعة ـ

مع بداية كل عام دراسي جديد، يفتح الطلاب أبواب المدارس والجامعات حاملين حقائبهم وأحلامهم معًا. تتكرر المشاهد ذاتها: دفاتر جديدة، أقلام لامعة، ابتسامات مختلطة بقلق من المجهول. لكن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بقوة: هل ما زال التعليم العربي قادرًا على صناعة المستقبل؟ أم أنه أصبح مجرد روتين اجتماعي يُعاد كل عام؟

التعليم بين الماضي والحاضر

في ذاكرة الأجيال الماضية، كان التعليم أشبه بسُلّم ذهبي للعبور إلى حياة كريمة. لم يكن مجرد مقاعد خشبية أو سبورات بيضاء، بل كان نافذة على عالم أفضل، ومفتاحًا للوظيفة المرموقة والمكانة الاجتماعية. اليوم، ومع تغيّر الزمن، تبدّل المشهد: عشرات الآلاف من الخريجين يقفون على أبواب البطالة، فيما تتسارع التكنولوجيات الحديثة بوتيرة تفوق سرعة استجابة أنظمتنا التعليمية.

هنا يبرز التناقض الصارخ: التعليم العربي ما زال يعيش في الأمس، بينما طلابه وواقعهم يركضون نحو الغد.

أزمة الهوية التعليمية

المشكلة ليست فقط في المناهج أو قاعات الدراسة، بل في فلسفة التعليم ذاتها. هل نريد من الطالب أن يكون وعاءً يملؤه المعلم بالمعلومات؟ أم نريد أن نصنع منه عقلًا ناقدًا، قادرًا على التحليل والابتكار؟

كثير من الأنظمة التعليمية العربية ما تزال أسيرة ثقافة الحفظ والتلقين، حيث الامتحان هو سيد الموقف، والدرجة هي المقياس الأوحد. لكن ماذا بعد الامتحان؟ ماذا بعد الشهادة؟ هل الطالب مستعد لمواجهة أسئلة الحياة المعقدة كما واجه أسئلة الورقة الامتحانية؟

التحديات الراهنة

1. بطالة الخريجين: ملايين الشباب يتخرجون كل عام من الجامعات، ليجدوا أنفسهم في طابور طويل من الانتظار، وكأن التعليم أصبح جواز سفر بلا وجهة.

2. فجوة التكنولوجيا: في زمن الذكاء الاصطناعي، ما زالت بعض مدارسنا تفتقر لأبسط أدوات التكنولوجيا. الطالب يعيش في عالم الهواتف الذكية، لكن قاعة الدرس تجعله يعود عشرات السنين إلى الوراء.

3. ضعف البحث العلمي: ما يُصرف على البحث العلمي في معظم الدول العربية لا يتجاوز كسورًا من الموازنات، مقارنة بما تنفقه دول متقدمة تجعل من المعرفة صناعة قومية.

4. المناهج الجامدة: في حين تتحرك الحياة بسرعة البرق، تبقى المناهج ساكنة، وكأنها غير معنية بأن العالم تغيّر.

وجه آخر للأزمة: المعلم

لا يمكن الحديث عن التعليم دون التوقف عند المعلم، العمود الفقري للعملية التعليمية. فالمعلم الذي يُرهق بالرواتب المحدودة والضغوط الإدارية لا يستطيع أن يكون مُلهِمًا. نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لمكانة المعلّم، ماديًا ومعنويًا، لأنه المحرّك الحقيقي لأي نهضة تعليمية.

الفرص الممكنة

ورغم كل هذه التحديات، فإن الأمل ما يزال موجودًا. التعليم يمكن أن يتحول إلى رافعة للنهضة إذا أعيدت صياغته بروح جديدة:

تعليم مهارات الحياة: مثل التفكير النقدي، حل المشكلات، العمل الجماعي، بدلاً من الاقتصار على المعارف النظرية.

التخصصات المستقبلية: كالأمن السيبراني، علوم البيانات، الاقتصاد الأخضر، والذكاء الاصطناعي، بدلًا من الاكتفاء بالتخصصات التقليدية.

الربط بسوق العمل: الجامعات لا يجب أن تكون جزيرة معزولة، بل شريكًا مباشرًا في التنمية الاقتصادية.

التعليم المدمج: الذي يجمع بين الحضور الوجاهي والتقنيات الرقمية، ليواكب متغيرات العصر.

التعليم والمجتمع… علاقة متبادلة

التعليم ليس شأنًا أكاديميًا فقط، بل هو مرآة للمجتمع. فحين يعاني المجتمع من الفساد أو المحسوبية، سينعكس ذلك على المدارس والجامعات. وحين تزدهر قيم العدالة والشفافية، ينعكس ذلك أيضًا على التعليم. لذلك فإن إصلاح التعليم لا ينفصل عن إصلاح المجتمع ككل.

مقاربة عالمية

إذا نظرنا إلى تجارب ناجحة في العالم، سنجد أن سرّ التقدم لم يكن في الثروات الطبيعية، بل في الاستثمار في العقول. كوريا الجنوبية وسنغافورة كانتا فقيرتين بالموارد، لكنهما صارتا من بين أقوى الاقتصاديات لأنهما وضعتا التعليم على رأس الأولويات. أما نحن العرب، فبرغم الثروات الهائلة، لا نزال نبحث عن طريقنا وسط ازدحام التحديات.

نحو رؤية مستقبلية

التعليم في العالم العربي بحاجة إلى رؤية شجاعة:

إعادة تعريف الغاية من التعليم: من إنتاج حملة شهادات إلى صناعة قادة وفكر وإبداع.

تمكين الشباب ليكونوا شركاء في صياغة السياسات التعليمية، لا مجرد متلقين.

تشجيع المبادرات الفردية، لأن الابتكار لا يولد من قاعات مغلقة، بل من عقول جريئة تبحث عن الجديد.

خاتمة

العودة إلى المدارس يجب ألا تكون مجرد مراسم موسمية نحتفل بها بالصور واللافتات، بل يجب أن تكون وقفة صادقة لمراجعة ما أنجزناه، وما فشلنا فيه، وما يمكن أن نصنعه لأجل أجيالنا القادمة.

المستقبل لا يبنيه النفط ولا المال وحدهما، بل يبنيه الإنسان الواعي، المتعلم، القادر على تحويل المعرفة إلى طاقة ونهضة. والسؤال الذي سيظل مفتوحًا: هل سنكتفي بالتغني بالشهادات، أم سنحوّل التعليم إلى مشروع حضاري يليق بأمتنا العربية؟

مدار الساعة ـ