شكّلت زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني إلى كل من أوزبكستان وكازاخستان محطة استراتيجية في مسيرة الدبلوماسية الأردنية، إذ لم تقتصر على الطابع البروتوكولي أو الثنائي، بل حملت رسائل سياسية واقتصادية وحضارية عكست رؤية ملكية شاملة لدور الأردن في الإقليم والعالم.
فقد التقى جلالته الرئيس الأوزبكي شوكت ميرضيائيف في مدينة سمرقند، والرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف في العاصمة أستانا، في مشهد جسّد إدراك الأردن لأهمية دول آسيا الوسطى في موازين القوى الدولية،وجاءت هذه الجولة في وقت تشهد فيه المنطقة تنافساً متزايداً بين قوى كبرى كروسيا والصين والغرب، وهو ما جعل الانفتاح الأردني على تلك الدول دليلاً على سياسة متوازنة ورؤية استراتيجية تهدف إلى تعزيز مكانة المملكة كجسر يربط الإقليم بالعالم.سياسياً، حملت الزيارة بُعداً واضحاً في سياق حشد الموقف الدولي ضد الممارسات الصهيونية في فلسطين، استمراراً للدور الطليعي الذي مارسه الأردن منذ اليوم الأول للاعتداء الغاشم على غزة،فقد تصدّر جلالة الملك الجهود الدبلوماسية لفضح الانتهاكات الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، وأكد على ثوابت الأردن الراسخة في الدفاع عن الحق الفلسطيني والوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس،وبهذا المعنى، أثبتت الزيارة أن القضية الفلسطينية تظل حاضرة في أجندة الأردن حتى في المحافل التي تبدو بعيدة جغرافياً، وأن البعد الأخلاقي لا ينفصل عن البعد السياسي.أما اقتصادياً، فقد عكست المباحثات الرسمية وتوقيع الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، إلى جانب حضور جلالته منتدى الأعمال الأردني–الكازاخستاني، حرص الأردن على تعزيز رؤية التحديث الاقتصادي التي أطلقها جلالته بإرادة استشرافية لمستقبل الوطن،وقد جاءت هذه الجهود منسجمة مع مسيرة اقتصادية ملكية طويلة ارتكزت على جعل الملف الاقتصادي أولوية كبرى للدولة الأردنية منذ تسلم جلالة الملك سلطاته الدستورية عام 1999،وخلال ربع قرن من القيادة، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من نحو 5.9 مليار دينار عام 2000 إلى 34.5 مليار دينار عام 2022، فيما تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي من 1278 ديناراً عام 2001 إلى أكثر من 3000 دينار عام 2022،كما ارتفعت قيمة الصادرات الأردنية من نحو مليار دينار في مطلع الألفية إلى ما يزيد على ثمانية مليارات دينار، وهو ما يعكس نجاح الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية التي وُضعت لجذب الاستثمارات وتوسيع قاعدة الشركاء التجاريين.وبرز الدور الشخصي لجلالة الملك في هذا المسار من خلال فتح الأسواق العالمية أمام الأردن عبر توقيع اتفاقيات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة وكندا وأوروبا، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، الأمر الذي جعل المملكة جزءاً من الاقتصاد العالمي وساهم في تعزيز تنافسيتها،كما أظهرت الزيارة الأخيرة إلى آسيا الوسطى أن الأردن يواصل البناء على هذه الأسس من خلال فتح أسواق جديدة وتعزيز التعاون مع دول صاعدة تشكّل محوراً متنامياً في الاقتصاد العالمي.حضارياً، جاء اختيار مدينة سمرقند التاريخية لعقد المباحثات ليضيف بعداً عميقاً لهذه الجولة. فسمرقند التي ازدهرت على طريق الحرير جسّدت رمزاً للتواصل الثقافي بين الشرق والغرب، كما أن الأردن بدوره، من البتراء إلى عمان، كان عبر العصور ملتقى للحضارات ومعبراً للقوافل والثقافات،وبذلك حملت الزيارة رسالة حضارية مفادها أن الثقافة المشتركة والهوية الإسلامية يمكن أن تكون مدخلاً لبناء شراكات متينة، لا تقتصر على الاقتصاد والسياسة بل تمتد إلى الجسور الإنسانية الراسخة.لقد مثّلت زيارة جلالة الملك عبد الله الثاني إلى أوزبكستان وكازاخستان فصلاً جديداً في السياسة الخارجية الأردنية، وعززت مكانة المملكة كدولة مؤثرة تنفتح على قارات جديدة وتبني شراكات استراتيجية، في الوقت الذي تواصل فيه القيام بدورها التاريخي في الدفاع عن فلسطين وقضايا الأمة العادلة،كما لخّصت الزيارة فلسفة السياسة الأردنية المعاصرة القائمة على الحضور الدولي النشط، والاقتصاد المنفتح، والتشبث بالثوابت الوطنية والقومية، وهو النهج الذي يجعل الأردن، رغم صغر مساحته وإمكاناته، كبيراً بدوره ورؤيته وحضوره العالمي.
التل يكتب: الأردن يعمّق حضوره في آسيا الوسطى
مدار الساعة ـ