في عصر العلم وتكنولوجيا المعرفة والتواصل صار العالم أصغر بكثير من تلك “القرية الصغيرة” التي تغنّى بها القرن العشرون.
فقد أعاد مبتكرو فكرة التواصل الاجتماعي صياغة مفهوم الزمن والمكان واستطاعوا أن يجمعوا العالم على فساحته في مكان واحد تتقاسم فيه الشعوب لحظاتها الجميلة والحزينة وتتفاعل فيما بينها في تجربة فريدة من التعايش يجالس الناس بعضهم البعض على الهواء ينفتحون على ثقافات مختلفة وحضارات جديدة يتقاسمون عاداتهم وتقاليدهم ويشكلون لوحة إنسانية مزجت بين التاريخ والحاضر.لكن، وبالمقابل صار الناس العاميون يسبحون في أوحال الجهل واللا معرفة يستهلكون قمامة الأفكار والمعلومات الرخيصة المنتشرة على مواقع التواصل يناقشونها ويكتفون بها وكأنها بديل عن القراءة الجادة والمعرفة العميقة.وسط هذا الزخم، انشغل الناس في صناعة صورة شخصية لامعة داخل أروقة مواقع التواصل وجوه مبتسمة أقوال فلاسفة وعلماء تُزين صوراً شخصية ألوان وهندام جذاب ومبادئ مكتوبة بعناية لكن نادراً ما يجرؤ أحدهم على تجسيدها في حياته الواقعية ، يقضي الناس الساعات أمام الشاشات يتصفحون الصور يكتبون التعليقات ويستهلكون الأخبار الزائفة، فيما يتركون خلفهم تحديات واقعية دراسة على الأبواب، التزامات أسرية، مشاريع عملية، ومبادرات مجتمعية مؤجلة.بهذا الشكل، صار الفرد إنساناً يعيش حياة زائفة وفق معايير نجاح مشوهة صورة براقة، متابعون كثر، وسلسلة إعجابات لا تنتهي نجاح سطحي قائم على التباهي والفخر بينما الحياة الحقيقية تبقى معلّقة “مع وقف التنفيذ”.لقد فرغ الواقع من محتواه القيمي والأخلاقي، لأن كينونة الأفراد أصبحت مرتبطة بشخصياتهم الافتراضية وما يعكسه الآخرون عنهم من قناعات الواقع بالنسبة للكثيرين لم يعد سوى مكان لتلبية الحاجات الغريزية من أكل وشرب وكسب وتزاوج فيما تُبنى “الحياة الحقيقية” هناك على ضوء الشاشات.ولعل الأكثر إيلاماً، أن النجومية صارت من نصيب أشخاص عاديين جداً، لا يعرفون أسماء أفراد أسرهم، لا يشاركونهم هموماً أو أفراحاً، ولا يتحركون إذا ألمّ بالبيت طارئ هم فقط منشغلون بصناعة مكان لهم بين رواد المواقع حيث يكفي أن يحفظ الناس أسماءهم ليشعروا أنهم “موجودون” حياتهم تتوقف إذا تعطّل الإنترنت فيتحول الواقع إلى سجن كبير، لا خلاص منه إلا بعودة الـ”واي فاي” ليعودوا للسطوع في فضاءات فيسبوك وإنستغرام.لا عيب أن يبقى الإنسان على تواصل مع العالم، يشارك لحظاته أو يعبّر عن رأيه، ولا بأس أن يجعل من العالم الافتراضي فسحةً لتخفيف هموم الحياة لكن العيب أن تتحول هذه الفسحة إلى حياة كاملة وأن يقضي الإنسان يومه بين الصور والتعليقات والشتائم السياسية.لقد صنعت مواقع التواصل جيلاً واسعاً من المُهمليين موظف أهمل أمانته بسبب ساعات يقضيها على هاتفه داخل المكتب، طالب أضاع مستقبله بانشغاله بصور المشاهير، ورب أسرة فقد أسرته بسبب إهماله لأبنائه وانشغاله بنقاشات عابرة وفي جميع هذه الحالات لا عزاء للوطن إلا إحصاء الخيبات وانتظار يوم تستيقظ فيه العقول من سباتها، لتثور على سياسات التضليل والتسفيه، وتعيد للوطن مجده المحفوظ في صفحات التاريخ
المواجدة تكتب: حين تتحول الحياة إلى صناعة صورة لامعة داخل أروقة مواقع التواصل
ليندا المواجدة
كاتبة وإعلامية أردنية
المواجدة تكتب: حين تتحول الحياة إلى صناعة صورة لامعة داخل أروقة مواقع التواصل

ليندا المواجدة
كاتبة وإعلامية أردنية
كاتبة وإعلامية أردنية
مدار الساعة ـ