الانتخابات النيابية في الأردن لم تكن يومًا مجرد استحقاق دوري يتكرر كل أربع سنوات، بل كانت دائمًا مرآة تكشف طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الناخب وصندوق الاقتراع، وبين الإرادة الشعبية وأدوات السلطة. وما جرى في انتخابات عام 2007 كان شاهدًا حيًا على حجم التحديات التي تواجه أي مرشح يسعى للوصول إلى البرلمان عبر الطريق الديمقراطي. حينها كنت أحد المرشحين، وأدركت مبكرًا أن التنافس الشريف الذي يُفترض أن يكون قاعدة الانتخابات لم يكن متاحًا بالكامل، لأن الديمقراطية المرسومة على الورق لم تكن مطابقة تمامًا لما يجري على أرض الواقع، خاصة مع وجود تدخلات سياسية نافذة قادرة على تغيير مسار النتائج أو تحديد من ينجح ومن يُقصى.
وليس ما أقوله اليوم مجرد انطباع شخصي، بل هو ما أكدته شهادات لرجال دولة وسياسة كبار. رئيس وزراء اسبق روى أنه تعرض لمحاولات لمنعه من الترشح في إحدى الدورات النيابية، مع تهديد صريح بأن إصراره على المشاركة سيقابله إخراج مُعد سلفًا للنتائج ضده. وفي المقابل، كشف وزير أسبق أنه تلقى اتصالًا من نائب رئيس وزراء أسبق أثناء انتخابات 1997 لإقناعه بخوض الانتخابات، مع وعود صريحة بالدعم المالي وضمان النجاح. هذه الوقائع، وإن اختلفت تفاصيلها، تعكس أن الانتخابات في الأردن لم تكن دائمًا انعكاسًا صافياً للإرادة الشعبية، بل تداخلت فيها اعتبارات النفوذ ومصالح القوى المتحكمة بالمشهد.الخطر الأكبر في هذه الظاهرة أنها لا تصادر حق المرشح فحسب، بل تُضعف ثقة المواطن بمؤسسات الدولة. فعندما يدرك الناخب أن صوته لا وزن له أمام هندسة الانتخابات، يفقد الحماسة للمشاركة، ويتحول البرلمان إلى مؤسسة شكلية عاجزة عن التمثيل الحقيقي أو عن ممارسة الرقابة الفاعلة. ومع تراكم هذه الممارسات، تتراجع الثقة السياسية، وتتجمد الحياة الحزبية، ويغيب عن البرلمان حضور النخبة القادرة على حمل هموم الناس ومساءلة الحكومات. تجربتي الشخصية في انتخابات 2007 كانت دليلاً على أن المرشح يواجه تحديين معًا: بناء الثقة مع الجمهور من جهة، ومقاومة الضغوط السياسية التي تحاول حرف المسار الطبيعي للعملية الانتخابية من جهة أخرى.ومع ذلك، فإن ما مضى قد مضى، والأخطاء تظل جزءًا من مسيرة الشعوب والأمم. كثيرون قدّموا تضحيات في سبيل الوطن، ولم يُلتفت إليهم، لكن قيمة العمل العام ليست في الموقع أو المكسب الشخصي، بل في المعاني الكبرى التي يترجمها السياسي في خدمة وطنه. وفي سبيل تلك المعاني، تحدث خسائر، لكن الأهم أن لا تكون جماعية، وأن تيستفاد منها دروسا تصون المستقبل. لذلك فإن إعادة استحضار انتخابات 2007 ليست نوعًا من اجترار الماضي أو تصفية الحسابات، وإنما استدعاء لتجربة لا تزال ماثلة في الذاكرة الوطنية، بهدف المراجعة والتأثير في الحاضر وتحصين المستقبل.والمستقبل لن يُصان بالندم على ما مضى، بل بالالتزام الصارم بتطبيق القوانين الناظمة للعملية الانتخابية والحياة الحزبية، بعيدًا عن أي تدخل أو تلاعب. المطلوب اليوم أن تكون هناك إرادة جادة لدى صانع القرار لإنهاء هذه الظاهرة، وأن تُمارس المؤسسات الرسمية عملها باستقلالية تامة، لأن استمرار العبث يعني الإبقاء على أزمة الثقة بين المواطن والدولة. ولا يكفي بعد كل انتخابات أن تُعلن النتائج وتُوزع المقاعد، بل يجب أن تكون هناك مراجعة ومحاسبة لأي جهة حاولت التأثير على المسار الطبيعي للانتخابات.فالوطن يعلو فوق الجميع، وإنصاف الأفراد الذين فقدوا حقهم الطبيعي في التمثيل النيابي هو جزء من إنصاف الوطن نفسه، لأن خسارتهم لم تكن شخصية بقدر ما كانت خسارة للثقة العامة بالعملية السياسية. والتجارب السابقة، ومنها تجربة 2007، أثبتت أن الديمقراطية الأردنية لا تزال بحاجة إلى حماية حقيقية، وأن إرادة الشعب تستحق أن تُصان بوصفها خط الدفاع الأول عن استقرار الوطن وقوته. فالبرلمان الذي يستمد قوته من أصوات الناس هو الضمانة الحقيقية لمواجهة أي تهديد داخلي أو خارجي، وأي إصلاح سياسي جاد يبدأ من هنا: من الاعتراف بأن صوت المواطن هو الأصل، وأن إرادته هي التي تصنع المستقبل.
النجار يكتب: الانتخابات النيابية الأردنية بين التدخلات السياسية وحق المواطن في الاختيار
إياد عبد الفتاح النجار
الأمين العام لحزب القدوة الأردني
النجار يكتب: الانتخابات النيابية الأردنية بين التدخلات السياسية وحق المواطن في الاختيار

إياد عبد الفتاح النجار
الأمين العام لحزب القدوة الأردني
الأمين العام لحزب القدوة الأردني
مدار الساعة ـ