ليس مألوفًا أن تحاصر دولة بنيران مشتعلة، لكن هذا هو حال الأردن اليوم. من غزة حيث القصف والمجاعة، إلى الضفة القابعة على حافة الانفجار، وسورية الممزقة والغارقة في الانقسامات، والعراق المضطرب والمفتوح على نفوذ إقليمي متصارع، وسيناء التي تظل مصدر تهديد أمني، ولبنان الباحث عن الخروج من المتاهة، واليمن والسودان ليسا ببعيدين، تبدو خاصرة الأردن أشبه ببرميل بارود تحيط به الشرارات من كل جانب، والمخاطر الجيوسياسية من كل اتجاه، واقتصاد ضعيف. في مثل هذا الوضع تزداد الخطوط الحمراء هشاشة، ويبدو أن الأردن يقف على حافة منطقة زلزالية لا تعرف الاستقرار.
إن وضع الأردن، ينطبق عليه وصف الفيلسوف هيغل للجغرافيا بأنها "قدر الشعوب"، وقدره، أنه في قلب صراع تتجاوز حدوده الجغرافيا. هنري كيسنجر، سبق أن قال "الأردن خط الدفاع الأول عن استقرار المنطقة"، ويرى أن الأردن يقف أمام هذا الامتحان، وهي حقيقة اليوم، أكثر من أي وقت مضى (هل يستخدم موقعه كورقة قوة، أم يتحول إلى خاصرة مكشوفة؟). الا ان منير الحمارنة، كان قد أشار في إحدى دراساته إلى أن "الخطر الحقيقي على الأردن ليس من الخارج بل من هشاشة الداخل"، وهو تحذير يوازي في أهميته التحذيرات الأمنية.مؤخرا، تزايدت المخاطر الأمنية مع تمدد نفوذ الميليشيات، وتصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران ووكلائها، وارتدادات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كلها ملفات تلقي بظلالها الثقيلة على الامن الأردني. كل ذلك يجعل حدود الأردن على خط تماس النار، ويجعله في موقع دفاعي دائم، ويضع مؤسساته الأمنية أمام تحديات (مراقبة الحدود، واحتواء التسلل، وتهريب السلاح والمخدرات وغيرها) غير تقليدية، بل هجينة تجمع بين الإرهاب، وحرب المعلومات، والضغوط الاقتصادية المتجددة وغيرها. ومع كل هذه التهديدات، لا تغيب عن المشهد الازمة الاقتصادية الحادة، والبطالة الخانقة، وتأكل الطبقة الوسطى. ان كل هذه، ليست مجرد مؤشرات مالية، بل هي مشاكل اجتماعية خانقة، فعندما يلتقي الإحباط الاقتصادي مع الغليان السياسي، يصبح الوضع صعباً أمام أي اهتزاز خارجي. صحيح أن الاقتصاد ليس العنوان الأول في مشهد النار، لكنه يبقى نقطة الضعف الأخطر، لكيلا يتحول إلى اضطراب اجتماعي يصعب السيطرة عليه.موقع الأردن يجعل منه جدار الصد الأخير، بين فوضى واستقرار الشرق الأوسط، فهو يمنحه دورًا محوريًا في حسابات القوى الكبرى، لكنه في الوقت ذاته يضعه في مرمى الضغوط والابتزاز السياسي والاقتصادي (مسؤوليات الأردن الجغرافية أكبر مما يتحمله وحده)، وهذه المعادلة هي ما تجعل النار قريبة جدًا من الخاصرة.ومع كل ذلك، يحاول الأردن الموازنة بين تحالفه التاريخي مع واشنطن، وضغوط الواقع مع إسرائيل، التي تتوسع في الضفة، وتمس امنه بشكل مباشر (باتريك كوكبرن يرى أن "الأردن يعيش دائمًا بين التبعية لواشنطن ومواجهة إسرائيل"، وهو مأزق لا يمكنه الفكاك منه بسهولة)، ويجد نفسه مضطرًا للتذكير بأن أي مساس بالوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس قد يشعل غضبًا داخليًا لا يمكن التنبؤ بمساره. ان إعلان الأمم المتحدة عن مجاعة في غزة، ليست وصمة إنسانية مخجلة على جبين العالم فقط، بل يضع الأردن أمام تداعيات مباشرة وخطيرة. فبلد يستضيف أكثر من مليوني لاجئ فلسطيني لا يستطيع تحمل أي موجة نزوح جديدة. ومن هنا، يصبح الموقف الأردني أكثر وضوحًا، في رفض التهجير القسري ورفض استخدام غزة كورقة تفاوض على حساب استقرار المملكة.في خضم هذه العواصف، الملك عبد الله الثاني "ربان السفينة" وحاجز الصد لحماية الأردن، والمحافظ على التوازن بين الداخل القلق والإقليم الملتهب، وتحذيراته من خطورة التهجير، ويرسم خطًا أحمر واضحًا "الأردن لن يكون ساحة بديلة ولن يقبل بتصفية القضية الفلسطينية على حسابه"، والأردن ليس ساحة لتصفية حسابات الآخرين، هذه الرسالة، هي إعلان سياسة دفاعية عن سيادة الأردن، وهو العارف، ان أي زعزعة للتوازن الديمغرافي أو الأمني ستفتح الباب على مستقبل محفوف بالمخاطر، ويهدد امن واستقرار الاردن.تشومسكي اعتبر أن "الدول الصغيرة التي تحافظ على استقلال قرارها في وجه القوى الكبرى، إنما تمارس أعظم أشكال السيادة"، وهو ما يعمل الملك على تكريسه في هذه المرحلة الحرجة، وكيسنجر، يشير إلى أن الدول الواقعة في مناطق التوتر "تعيش فقط بقدر ما تملك من مناعة داخلية وصلابة في تحالفاتها"، ويضيف ان "الجغرافيا لا ترحم الدول التي لا تعرف كيف تستخدم موقعها"، وهنتنغتون كتب "أن الدول الصغيرة في المناطق المتفجرة تعيش دائمًا على حافة البقاء"، ويكاد هذا ينطبق على الأردن اليوم، أكثر من أي وقت مضى. وسط هذا المشهد المشتعل، يتحرك الملك وبرؤية استراتيجية (حتى لا يتحول الأردن الى مجرد هامش في لعبة الأمم) في المحافل الدولية ويكثّف من الجهود الدبلوماسية مع العواصم الكبرى لتثبيت خطوط حمراء تحمي الاردن من الانزلاق إلى المواجهة. إن ما يعيشه الأردن ليس مجرد انعكاس لصراع خارجي، بل هو اختبار لصلابته، وقدرته على الصمود وسط إقليم مضطرب واقتصاد هش. الملك، يدرك حجم الخطر، ويسعى إلى موازنة دقيقة بين حماية الداخل والانخراط في دبلوماسية إقليمية فاعلة، ولذلك وجه الحكومة إلى إعادة تنشيط الحياة السياسية، وتحريك مشاريع اقتصادية استراتيجية تقلل من هشاشة الداخل في مواجهة الخارج. الكرة الآن في ملعب السلطة التنفيذية، لتعزيز جبهة الداخل عبر إصلاحات جريئة ومتكاملة، تربط بين الأمن والاقتصاد والسياسة، وتعيد بناء الثقة، وتعزز مناعة الاقتصاد من الهشاشة، ببرامج ومشاريع واضحة المعالم وقابلة للقياس والمسألة، وتفتح قنوات السياسة أمام مشاركة حقيقية، لتحمي الأردن من النار المقتربة من خاصرته.فالتاريخ لا يرحم الدول التي تتأخر عن مواجهة أزماتها، والأردن لا يملك ترف الانتظار، والنار تقترب من خاصرته، والتعامل معها يحتاج إلى عقل بارد ورؤية بعيدة المدى، وتطبيقاً لمقولة نيتشه "من يعيش قرب البراكين، عليه أن يتعلم الرقص على حافتها"، وهذا ما يجب فعله اليوم، شئنا أم أبينا.مع ذلك، الأردن ليس مكشوفاً بالكامل كما يظن البعض، فهو يمتلك رصيدًا من الشرعية ولاعبًا متوازنًا، وصاحب دور محوري في ملف القدس والقضية الفلسطينية، وموقعه الجغرافي يمنحه ورقة تفاوضية قوية، واستقراره مصلحة أميركية وأوروبية وخليجية على حد سواء، لكن هذه الأوراق ليست كافية إن لم تُدعَم بإصلاح يواجه مشكلات الفقر والبطالة ويعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.النار بالفعل تقترب من الخاصرة، والأردن لن يقف متفرجًا على مصيره، ومن يعرف تاريخه يدرك أن هذا البلد، صمد أمام عواصف كبرى عبر العقود الماضية، وقادر على إدارة التوازن الصعب من جديد لكيلا يصبح ضحية لجغرافيتة، الا ان الفارق هذه المرة أن التحديات تتقاطع (جيوسياسية واقتصادية وأمنية واجتماعية)، مما يزيد من المخاطر، فحين تقترب نار الجوار المشتعلة، في فلسطين، وسوريا، والعراق، ولبنان (ليست ملفات خارجية، بل كمعادلات وجودية تؤثر مباشرة على مستقبل الأردن) من الخاصرة، يكفي شرر صغير لإشعال الحقل بأكمله، وهل نحن مستعدون ان حدث ذلك؟ ويبقى الرهان الأردني واضح، الاعتماد على تماسك الداخل، وتعزيز التحالفات الدولية، والاستثمار في قوة الدولة الناعمة. فالأردنيون، يثقون بقيادتهم، حيث تتجلى فلسفة الحكم، الموازنة بين القوة الأمنية، والانفتاح السياسي التدريجي، ومحاولة تخفيف الاحتقان الاقتصادي حتى لا يتحول الداخل إلى خاصرة رخوة، كما ويتجلى دور الملك، كمهندس للتوازنات الكبرى، يمنع النار من التمدد إلى الداخل، ويذكّر العالم أن خاصرة الأردن ليست مجرد جغرافيا، بل خط الدفاع الأخير عن استقرار الشرق الأوسط.في النهاية، قد تكون النار قريبة من الخاصرة، لكن التاريخ يثبت أن الأزمات الكبرى قد تخلق أيضًا فرصًا كبرى، والأردن أثبت مرارًا أنه يعرف كيف يحمي قلبه، بالتفاف ابنائه خلف القيادة، والمطلوب اليوم ان يتقدموا بالمسارات الإصلاحية بكفاءة لتحقيق الامن الوطني.*مركز عبر المتوسط للدراسات الإستراتيجية
جغرافيا النار.. خاصرة الأردن الملتهبة
الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
جغرافيا النار.. خاصرة الأردن الملتهبة

الاستاذ الدكتور عبدالله سرور الزعبي
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
مركز عبر المتوسط للدراسات الاستراتيجية رئيس جامعة البلقاء التطبيقية السابق
مدار الساعة ـ