أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية شهادة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس الموقف جامعات خليجيات دين مغاربيات اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

شقمان يكتب: كيف تُعامل الصحافة من بعبدا إلى البيت الأبيض وصولاً إلى غزة؟


الكابتن أسامة شقمان

شقمان يكتب: كيف تُعامل الصحافة من بعبدا إلى البيت الأبيض وصولاً إلى غزة؟

مدار الساعة ـ

الصحافة، التي وُجدت لتكون عين الشعوب على الحقيقة، تبدو اليوم عالقة بين ثلاثة عوالم متناقضة: جدران البروتوكول السياسي في بيروت، وهامش الفضول في واشنطن، وصمت القبور في غزة. ثلاث محطات متباعدة، لكنها تكشف حقيقة واحدة: الكلمة لم تعد محمية، بل صارت إما مقيدة، أو مقيّمة، أو مقتولة.

في قصر بعبدا، وقف المبعوث الأميركي توم باراك يخاطب الصحفيين بلهجة الأستاذ أمام تلاميذه:

> "The moment that this starts becoming chaotic, like animalistic, we’re gone… Act civilized."

جملة تحمل في ظاهرها دعوة إلى النظام، لكنها في باطنها وصاية على مهنة لا تزدهر إلا بالفوضى الخلّاقة للأسئلة. هل يحتاج الصحفيون إلى دروس في التمدّن؟ أم أن السلطة، أي سلطة، تخشى أن يتحول السؤال إلى مواجهة؟ بدا المشهد وكأن الحرية نفسها تُحاصر بكلمة، وكأن الحقيقة تُعاقَب إن لم تلتزم آداب البروتوكول.

وعلى الضفة الأخرى، في البيت الأبيض، تتجلى صورة أخرى. سؤال صحفي عن لباس الرئيس الأوكراني زيلينسكي بدا للبعض ساذجاً أو غير ملائم، لكنه طُرح. لم يُحجب، لم يُقمع، بل تُرك يتردّد في القاعة.

هنا يظهر الفارق: في بيروت، يُذكَّر الصحفيون بالتحضّر قبل أن ينطقوا. وفي واشنطن، يُسمح لهم بأن يختبروا حدود الفضول، حتى لو لامسوا السخف. الحرية هنا ليست في قيمة السؤال، بل في إمكانية أن يُسأل بلا خوف.

لكن الصورة الأكثر قسوة تأتي من غزة. في 25 آب/أغسطس 2025، غارة إسرائيلية على مستشفى ناصر في خان يونس تُسقط عشرين قتيلاً، بينهم خمسة صحفيين من مؤسسات كبرى.

لم يُمنحوا ترف السؤال، ولا وُضعوا تحت وصاية بروتوكولية. بل وُضعوا مباشرة في مرمى النيران. تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن أكثر من 240 صحفياً قُتلوا منذ بداية الحرب، أرقام تحوّلت إلى شاهدٍ على جريمة مستمرة.

بينهم أنس الشريف، مراسل الجزيرة، الذي وُصف مقتله بأنه محاولة متعمدة لطمس الحقيقة. هنا لا تُسلب الصحافة حريتها بالكلمة، بل تُنتزع حياتها بالكامل.

الفارق في الجوهر

من بعبدا إلى واشنطن وصولاً إلى غزة، تتغير الأدوات وتبقى النتيجة واحدة: الصحافة محاصَرة. في الأولى تُعاقَب بالكلمة الناعمة، في الثانية تُختبر بالفضول، وفي الثالثة تُمحى بالصواريخ.

إنها ليست امتيازاً يُمنح، ولا ترفاً يثير الضحك، وليست جريمة تستوجب الموت. إنها حق وجودي للشعوب، وشرط أساسي للحرية.

الخلاصة: في بيروت يُطلب من الصحفي أن يكون "متحضّراً"، وفي واشنطن يُترك ليسأل حتى عن اللباس، وفي غزة يُدفن مع كاميرته تحت الركام. هكذا يتوزع مصير الكلمة بين القيد والسخرية والموت. والسؤال الذي يبقى معلّقاً: هل سيبقى العالم يتفرج على الصحافة تُقتل ببطء في القاعات، وبسرعة تحت القصف؟ أم سيُدرك أخيراً أن حماية الحقيقة ليست خياراً، بل بقاءٌ للإنسان نفسه؟

مدار الساعة ـ