أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات جامعات مغاربيات خليجيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

الحسبان يكتب: التحديث السياسي.. من الجمود إلى بناء الاعتقاد


فهد الحسبان

الحسبان يكتب: التحديث السياسي.. من الجمود إلى بناء الاعتقاد

مدار الساعة ـ

حين أطلق جلالة الملك مشروع التحديث السياسي، لم يكن مجرد إجراء قانوني أو تعديل مؤقت، بل كان قرارًا استراتيجيًا يرسم مسار الدولة في مئويتها الثانية. المبادرة الملكية لم تأتِ لتكون حوارًا شكليًا أو تجميلًا للنصوص، بل لتفتح بابًا لإعادة صياغة العلاقة بين المجتمع والدولة على أسس المشاركة والعدالة والمواطنة الفاعلة. منذ البداية، كان واضحًا أن جلالة الملك يريد أن تصبح السياسة خيارًا طبيعيًا وضروريًا، وأن يحظى الشباب والنساء بموقع مركزي في صناعة القرار، لا مجرد مقاعد رمزية.

كعضو في اللجنة الملكية، عايشت عن قرب تفاصيل هذا المسار، وشاركت في وضع إطار تشريعي شامل يشمل قانون انتخاب جديد، قانون أحزاب حديث، وتخفيض سن الترشح، وحماية النشاط الحزبي في الجامعات، وتوسيع المقاعد النسائية، مع ربط الدعم المالي بالأحزاب بمدى التمكين الداخلي.

تهيئة البيئة السياسية لا تقل أهمية عن صياغة القوانين نفسها؛ فهي تعني بناء ثقافة وطنية تدعم المشاركة السياسية، وتهيئة مؤسسات الدولة لاستيعاب التنوع الحزبي والشبابي والنسائي. يتطلب ذلك تطوير آليات شفافة لدعم الأحزاب، وتشجيع مبادرات مجتمعية تُبرز دور المواطن في صناعة القرار، وتبني شبكة من القيم والممارسات التي تجعل السياسة جزءًا طبيعيًا من حياة الناس اليومية. كما يشمل تهيئة البيئة السياسية توسيع قنوات التواصل بين الحكومة والمواطنين، بحيث يشعر الشباب والنساء أنهم ليسوا متلقين سلبيين بل شركاء حقيقيون في رسم السياسات واتخاذ القرارات.

وعلى صعيد آخر كشف الواقع فجوة واضحة: الحكومة السابقة لم تلتقط المبادرة بالجدية المطلوبة، وبقيت مراقبة أكثر منها فاعلة، تاركة المجتمع في حالة من الشك والريبة. النصوص أُقرت، لكن الإدراك العام لم يتغير؛ الشباب ما زال يشكك في جدوى المشاركة، والنساء ينظرن إلى الكوتا كسقف لا بوابة. إدارة الإدراك العام ليست تفصيلًا ثانويًا، بل جوهر العملية السياسية. المواطن يحتاج أن يصدّق أن الحزبية لم تعد مجرد ديكور سياسي، بل قناة للوصول إلى البرلمان، ومنه إلى التشكيل والمشاركة في الحكومات وصياغة السياسات. الحكومة الحالية قادرة على دفع هذا التحول إذا فتحت أبوابها للأحزاب باعتبارها شريكًا في صناعة القرار، ومنحتها مساحات حقيقية في السياسات المحلية، بحيث يرى المواطن أثر الانخراط الحزبي على حياته اليومية.

الإعلام أيضًا يمكن أن يتحوّل من منبر للشعارات إلى أداة لصناعة قناعة جديدة، ليس عبر تسويق خطاب رسمي فحسب، بل بإنتاج قصص نجاح ملموسة: حزب يساهم في تحسين النقل العام، أو يقدم حلولًا تعليمية مبتكرة، أو يطلق برامج تشغيل للشباب. حين يرى المواطن أن السياسة تدخل تفاصيل حياته اليومية، يتحول الشك إلى ثقة، وتنتقل الصورة النمطية إلى معتقد جديد. ولا يجب أن تظل هذه الجهود مؤقتة، بل مشروعًا وطنيًا مستدامًا تُستثمر فيه الموارد والعقول كما نستثمر في البنى التحتية. في البرلمان، يجب أيضًا تسهيل عمل الكتل الحزبية الوليدة، لتنتقل من مقاعد متناثرة إلى كتل وازنة قادرة على إنتاج برامج وسياسات فعلية تؤثر في الواقع. كما يمكن للحكومة أن تطلق برامج متابعة دورية لتقييم أثر الانخراط الحزبي على حياة المواطنين، وتوثيق التجارب الناجحة لتعميمها على كافة المحافظات، ما يعزز مصداقية التحديث السياسي ويُترجم النصوص إلى واقع محسوس.

إن مسار التحديث الذي أراده الملك يظل الهدف الوطني الجامع، ولا يجوز أن يُختزل أو يُعرقل تحت وطأة حسابات حكومية ضيقة أو ترددات مؤسسية. المطلوب اليوم أن تتحول الحكومة من موقع المحايد إلى موقع المبادر، وأن تعيد تشكيل الإدراك العام باتجاه الثقة بالعمل الحزبي والسياسي. التحدي الحقيقي ليس في النصوص التي أنجزت، بل في إرادة التطبيق وبناء القناعة المجتمعية بأن السياسة ممكنة وفاعلة. وجلالة الملك حين حدد هذا المسار، وضع أمام الجميع فرصة تاريخية لا تقبل التراجع ولا تحتمل التسويف، ليبقى التحديث خيارًا لا رجعة عنه، ولتبقى الدولة وفية لوعدها في المئوية الثانية.

مدار الساعة ـ