? أصبح التعليم الرقمي (Digital Education) مكوِّنًا أساسيًا في المنظومات التربوية الحديثة، إذ عرَّفته منظمة اليونسكو بأنه: "استخدام الموارد الرقمية والتقنيات الحديثة في التعليم والتعلّم لتعزيز الوصول والجودة والابتكار". غير أنّ الاقتصار على هذا البعد التقني أو الوظيفي قد يُنتج تعليماً فعالاً من حيث الشكل، لكنه قد يفتقد إلى الجوهر التربوي والقيمي.
⚡ومن منظور إسلامي، فإن الغاية الأسمى للتعليم هي تزكية النفس قبل تنمية المهارة، مصداقًا لقوله تعالى:﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ سورة الشمس: 9فالتعليم الرقمي المتجود ليس مجرد وسيلة لنقل المعرفة، بل طريق لتربية الإنسان ليكون نافعًا لدينه ومجتمعه.وبذلك، فإن جودة التعليم الرقمي لا تُقاس فقط بسرعة تحميل المنصات أو جمال تصميمها، وإنما بقدرتها على تحقيق مقاصد التربية الشاملة: بناء الإنسان المؤمن، الواعي، النافع، المتقن لعمله، مصداقًا لقوله تعالى:﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ سورة التوبة: 105،وقوله ﷺ: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".وهكذا، يصبح "التجويد" إطارًا أوسع من التقنية، إذ كما جُوِّد القرآن في لفظه ليصل أثره إلى القلوب، يجب أن يُجَوَّد التعليم الرقمي ليصل أثره إلى العقول والسلوك.? مفهوم تجويد التعليم الرقميالتجويد في اللغة هو الإتقان والتحسين، وهو مفهوم أصيل في حضارتنا الإسلامية، كما في تجويد القرآن الكريم. وعند إسقاطه على التعليم الرقمي، يتسع ليشمل:✨إحكام المحتوى الرقمي وجودته.✨تحقيق المقاصد القيمية والتربوية.✨ضمان الأثر العميق في المتعلم على المستويين الفردي والمجتمعي.?فالتجويد الرقمي إذن عملية تربوية حضارية تستهدف صناعة الإنسان المتكامل، في ضوء مقاصد الشريعة: حفظ الدين، العقل، النفس، النسل، والمال.? أبعاد ومعايير تجويد التعليم الرقمي من منظور إسلامي تربوي البعد القيمي (المعيار الأخلاقي):✨غرس القيم الإسلامية والإنسانية: الأمانة، الصدق، العدل، التعاون.✨الالتزام بالاستخدام الأخلاقي للتقنية: مكافحة الغش، صون الخصوصية، احترام الملكية الفكرية.✨تربية الوعي الرقمي (Digital Citizenship): ترشيد الاستخدام، تجنب الإدمان، المسؤولية تجاه البصمة الرقمية.?القدوة الرقمية: التزام المعلّم بسلوكيات راقية عبر المنصات، ليكون نموذجًا تربويًا يحتذي به الطلبة.? المعلم الرقمي القيمي يجعل التقنية وسيلة لتزكية النفس لا لإضعافها. البعد المعرفي (المعيار العلمي):✨دقة المحتوى الرقمي وصحته وموثوقيته.✨التوافق مع المناهج الوطنية والمرجعيات الإسلامية.✨توظيف مصادر متنوعة (نصوص، مقاطع مرئية، محاكاة).✨تعزيز مهارات القرن الحادي والعشرين: التفكير النقدي، الإبداع، التواصل، التعاون.? المنصة بلا علم رصين كالجسد بلا روح. البعد التربوي (المعيار التعليمي):✨تحفيز التعلّم الذاتي والمستمر.✨الموازنة بين المعرفة والقيم والسلوك.✨ربط التعليم الرقمي بحياة الطالب ومجتمعه.✨توظيف نماذج تعليمية حديثة مثل: التعلّم القائم على المشروع (PBL)، والتعلّم المدمج (Blended Learning).✨اعتماد تقويم شامل: (فهم – اقتناع – ممارسة).?التربية بالقدوة الرقمية: عبر أسلوب المعلم في تعامله وأدائه داخل البيئة الرقمية.? التربية الرقمية ليست أن ينجح الطالب في اختبار، بل أن ينجح في اختبار الحياة. البعد التقني (المعيار الوظيفي):✨سهولة الاستخدام والوصول (User-friendly).✨التوافق مع مختلف الأجهزة والأنظمة.✨الأمان الرقمي وحماية بيانات المتعلمين.✨تفعيل أدوات المشاركة والتعاون.✨مراعاة استدامة البنية التحتية وإمكانية التطوير.✨توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول وأخلاقي، وضمان النفاذية (Accessibility) لذوي الاحتياجات الخاصة.? التقنية وسيلة، فإن خدمت الغاية التربوية صارت قوة، وإن غابت عنها صارت عبئًا. البعد المجتمعي (المعيار الاجتماعي):✨توظيف التعليم الرقمي في خدمة قضايا المجتمع المحلي.✨تعزيز الانتماء والمواطنة الفاعلة.✨ربط المتعلم بالمسؤولية تجاه أسرته، مجتمعه، وأمته.✨المشاركة في مبادرات لمحو الأمية الرقمية ودعم الفئات الهشّة.? التعليم الرقمي المتجود يصنع مواطناً رقمياً نافعاً، لا متلقياً منعزلاً.? نحو نموذج عملييمكن صياغة إطار عملي يدمج الأبعاد الخمسة السابقة:أمثلة عملية:قيمي نزاهة –أمانة – خصوصية إلزام الطلاب بذكر المصادر الرقمية، برامج توعية حول الأمان الرقميمعرفي دقة – موثوقية –تنوع إدراج محتوى علمي موثق، استخدام محاكاة تفاعليةتربوي ربط بالحياة – تقويم شامل – تحفيز ذاتي مشاريع مجتمعية، تقييم قائم على مواقف حياتيةتقني سهولة – أمان – استدامة – نفاذية منصات سهلة، حماية البيانات، أدوات للطلبة ذوي الاحتياجاتمجتمعي مواطنة –انتماء – خدمة عامة أنشطة رقمية لحل قضايا بيئية، مبادرات لمحو الأمية الرقمية? الرؤية المستقبلية: (ما بعد المنصة والتطبيق):✨نقلة فلسفية: من نقل المعلومات إلى بناء الإنسان.✨نقلة تربوية: من التركيز على الأداة إلى التركيز على الأثر.✨نقلة قيمية: من حياد التقنية إلى توظيفها لبناء المعنى.✨نقلة مجتمعية: من التعليم الفردي إلى التعليم الذي يخدم قضايا الأمة. فالمستقبل ليس للتقنية بلا قيم، ولا للقيم بلا تقنية، بل لتكامل التقنية مع القيم، لتكون المعرفة جسرًا نحو عمارة الأرض لا مجرد بيانات عابرة.⚡ مقومات ومعيقات تجويد التعليم الرقمي:✅ المقومات:✨تحقيق العدالة الرقمية وتقليص الفجوة بين الفقراء والأغنياء.✨توجيه المحتوى الرقمي بما ينسجم مع قيمنا الحضارية.✨رفع وعي الأسر والطلاب بالثقافة الرقمية.✨توظيف الذكاء الاصطناعي مع ضمان التوجيه التربوي.❌ المعيقات:✨الفجوة الرقمية وضعف البنية التحتية.✨سيطرة المحتوى الغربي البعيد عن قيمنا أحيانًا.✨ضعف الوعي الرقمي لدى بعض الأسر والطلاب.✨خطر الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي دون بوصلة تربوية.? إن تجويد التعليم الرقمي ليس خيارًا ثانويًا، بل هو واجب حضاري ورسالة إيمانية. فالمسلم المعاصر لا يكتفي أن يكون متعلماً رقمياً، بل متعلماً متجوِّداً يترك بصمته الرقمية في ميزان حسناته، قبل أن تُحفظ في خوادم التقنية.فالتعليم الرقمي المتجود ليس الأجمل تصميمًا ولا الأسرع تحميلًا، وإنما الأقدر على صناعة طالبٍ يعبد الله عن وعي، ويخدم الناس عن إخلاص، ويعمر الأرض عن مسؤولية. وهذا هو المعيار الحقيقي للتجويد: أن يبقى الأثر في القلوب والعقول والسلوك، لا في ذاكرة الأجهزة.
البستنجي يكتب: معايير تجويد التعليم الرقمي.. إطار إسلامي تربوي لما بعد المنصّة والتطبيق
إياد يوسف البستنجي
البستنجي يكتب: معايير تجويد التعليم الرقمي.. إطار إسلامي تربوي لما بعد المنصّة والتطبيق
مدار الساعة ـ