لم يكن إعلان سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني عن إعادة تفعيل برنامج خدمة العلم مجرد قرار تنظيمي عابر أو خطوة عسكرية تقليدية، بل هو حدث وطني بامتياز يلامس جوهر بناء الدولة الأردنية الحديثة، ويعكس رؤية القيادة في تمكين الشباب وإعدادهم لمستقبل يليق بتاريخ هذا الوطن ومكانته. فمنذ اللحظة التي خرج فيها سموه معلناً هذا القرار أمام شباب إربد، أدرك الجميع أن الأردن يقف على أعتاب مرحلة جديدة تتجاوز حدود التدريب العسكري لتصل إلى صناعة الإنسان الأردني المتكامل، الواعي، المنتمي، والقادر على مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
الهوية والانتماء… الجذور التي لا تموتفي عالم يزداد تعقيداً وتتسارع فيه المؤثرات الثقافية والاجتماعية، تبقى الهوية الوطنية الركيزة الأساسية لحماية المجتمع من الذوبان أو الانجراف وراء أنماط دخيلة. وهنا تأتي خدمة العلم كحاضنة تربوية تُعيد الشباب إلى جذورهم الأصيلة، وتغرس فيهم معاني الولاء والانتماء. فالتحاق الشاب ببرنامج وطني من هذا النوع يعني تفاعله المباشر مع قيم الجيش العربي، ومع رمزية البذلة العسكرية التي طالما كانت عنواناً للشرف والفداء.ولا يخفى أن الانتماء الحقيقي لا يُصنع بالشعارات أو الخطب فقط، بل يُبنى من خلال التجارب الملموسة التي يعيشها الفرد. ومن هنا، فإن خدمة العلم تُعد مدرسة عملية يتعلم فيها الشاب أن حب الوطن ليس مجرد عاطفة، بل التزام وسلوك يومي يُترجم في الانضباط والالتزام وحماية مقدرات الدولة.الانضباط وبناء الشخصيةالشباب الأردني يمتلك طاقات هائلة، غير أن هذه الطاقات بحاجة إلى توجيه وتأطير. ومن خلال خدمة العلم، يُعاد تشكيل الشخصية الفردية على أسس الانضباط والجدية واحترام الوقت. فالتجربة العسكرية، حتى وإن كانت قصيرة نسبياً، تترك أثراً عميقاً في عقلية الشاب وسلوكه، وتجعله أكثر قدرة على تحمل المسؤولية في حياته المدنية لاحقاً.الانضباط الذي يكتسبه المكلف خلال ثلاثة أشهر قد يوازي سنوات من الخبرة العملية في بيئات أخرى. فهو يتعلم كيف يعمل ضمن فريق، كيف يواجه الصعاب، وكيف يتغلب على ذاته قبل أن يتغلب على التحديات الخارجية. ومن هنا، فإن برنامج خدمة العلم يُشكل دورة مكثفة في القيادة والالتزام والإنتاجية.بعدٌ أمني واستراتيجيالأردن، بما يحمله من موقع جغرافي حساس وتاريخ سياسي وأمني مليء بالتحديات، بحاجة إلى جيل مدرَّب وقادر على أن يكون خط الدفاع الأول عند الحاجة. وجود آلاف الشباب الذين تلقوا أساسيات التدريب العسكري يعني تعزيز الأمن الوطني ورفع مناعة الدولة أمام أي طارئ.كما أن خدمة العلم تُسهم في بناء قاعدة بشرية واسعة يمكن الاعتماد عليها وقت الأزمات، وتُشكّل خط دعم ورديف للجيش العربي المصطفوي. إنها ليست مجرد تجربة تدريبية، بل استراتيجية وطنية لخلق وعي أمني مجتمعي يربط بين المواطن ومؤسسات الدفاع الوطني.تمكين اقتصادي وتنمية مجتمعيةلا يمكن النظر إلى خدمة العلم بمعزل عن خطط التمكين الاقتصادي للشباب. فالدولة، وهي تعيد تفعيل هذا البرنامج، ربطته بمسارات التعليم المهني والتقني والريادة، بحيث يتحول إلى بوابة عبور نحو سوق العمل. الشاب الذي يخرج من تجربة الخدمة سيعود أكثر استعداداً لتحمل ضغوط العمل، وأكثر إدراكاً لقيمة الالتزام والوقت، وهو ما يرفع من فرص نجاحه في مشاريعه المستقبلية.إلى جانب ذلك، فإن توفير مكافأة مالية للمكلّفين، ولو رمزية، يعكس تقدير الدولة لدور الشباب، ويُسهم في التخفيف من الأعباء على أسرهم. إنها رسالة بأن الدولة لا تفرض عبئاً، بل تُقدّم فرصة متوازنة، فيها الواجب وفيها أيضاً التحفيز.البعد الاجتماعي… تمازج وتلاحممن الجوانب الإيجابية لخدمة العلم أنها تُزيل الفوارق الطبقية والاجتماعية، حيث يقف جميع الشباب في صف واحد، يرتدون اللباس نفسه، ويؤدون الواجب ذاته. في هذه التجربة، يكتشف الشاب أن قيمة الإنسان ليست في مظهره أو خلفيته الاجتماعية، بل في التزامه وجديته وقدرته على العطاء.كما تُسهم الخدمة في تعزيز روح التضامن، وتفتح المجال أمام صداقات وعلاقات جديدة تتجاوز حدود المناطق والأصول والمنابت، مما يعمق الوحدة الوطنية ويُعيد للأردنيين صورتهم الجامعة تحت راية واحدة.الرسالة الداخلية والخارجيةإطلاق ولي العهد لهذه المبادرة من قلب لقاء شبابي ليس مجرد تفصيل بروتوكولي، بل هو تأكيد على أن القيادة تؤمن بدور الشباب وتثق بقدرتهم على صناعة المستقبل. إنها رسالة واضحة بأن الأردن يضع شبابه في صدارة المشهد الوطني، وأنهم ليسوا على هامش القرار، بل في صلبه.أما على المستوى الخارجي، فإن إعادة تفعيل خدمة العلم تُشكل رسالة سياسية وأمنية للدول والمنظمات الإقليمية والدولية، مفادها أن الأردن ماضٍ في ترسيخ الاستقرار، وصناعة جيل جديد واعٍ ومنظم، قادر على مواجهة التحديات، وحريص على حماية هويته وحدوده.التحديات وفرص النجاحقد يتساءل البعض عن التحديات المرتبطة بتنفيذ البرنامج، من حيث اللوجستيات أو الموارد أو تقبّل بعض الفئات لفكرة الانقطاع ثلاثة أشهر عن الدراسة أو العمل. غير أن التجارب السابقة، إلى جانب التطوير المعلن في الآليات، يفتح المجال لنجاح المشروع وتذليل العقبات. فوجود آلية اختيار عادلة، ونظام إجازات، ومكافآت مالية، كلها عوامل تجعل الخدمة أكثر مرونة وقبولاً.وبالنظر إلى الإرادة السياسية الواضحة، والدعم المؤسسي من القوات المسلحة، فإن فرص نجاح البرنامج مرتفعة، خصوصاً إذا رافقته حملات توعية إعلامية تشرح للشباب والأسر مزاياه وفوائده.كلمة أخيرةإعادة تفعيل خدمة العلم ليست مجرد استرجاع لتجربة ماضية، بل هي استثمار في المستقبل الأردني. إنها خطوة استراتيجية في مشروع وطني شامل لصناعة الإنسان، وبناء شخصية الشباب، وتعزيز الهوية، وتوفير قاعدة أمان اجتماعي واقتصادي وأمني.هذا القرار يعكس رؤية قيادة تُدرك أن الأمم لا تُبنى بالموارد المادية وحدها، بل بالإنسان الواعي، المسؤول، القادر على العطاء. وهو تجسيد لنهج أردني أصيل يضع المواطن في قلب المعادلة الوطنية.دعاء من القلبوفي الختام، نسأل الله العلي القدير أن يحفظ الأردن عزيزاً شامخاً، وأن يصون قيادته الهاشمية الحكيمة، ممثلة بجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين وولي عهده الأمين الحسين بن عبد الله الثاني، وأن يُبارك في شباب الوطن الذين هم عدته وعديده وسر قوته، وأن يبقى هذا البلد الطيب آمناً مستقراً، نموذجاً في الانتماء والوحدة والكرامة.
العشي يكتب: خدمة العلم.. مشروع وطني لصناعة المستقبل الأردني
مدار الساعة ـ