يشكل إعلان سمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله الثاني حفظه الله عن إعادة تفعيل خدمة العلم محطة مهمة في مسيرة الدولة الأردنية نحو إعادة صياغة علاقتها بجيل الشباب. فالقرار لا يقف عند حدود إحياء تقليد وطني ارتبط في ذاكرة الأردنيين بالانضباط العسكري وحماية الوطن، بل يتجاوز ذلك ليحمل دلالات أعمق تتصل بتمكين الشباب، وتعزيز وعيهم الوطني، وإكسابهم المهارات التي تجعلهم أكثر جاهزية لمواجهة تحديات المستقبل. وفي ظل المتغيرات المتسارعة إقليميا ودوليا، جاءت هذه المبادرة لتؤكد أن الأردن يراهن على أبنائه باعتبارهم الثروة الحقيقية التي لا تنضب.
إن الدافع الرئيس لإعادة الخدمة ينبع من حاجة المجتمع الأردني إلى إعادة بناء جسور الثقة بين الفرد والدولة، وإحياء قيم الالتزام والانتماء التي قد تضعف أحيانا بفعل التحولات الاجتماعية والاقتصادية. فشريحة واسعة من الشباب تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وما ينتج عنها من إحباط أو عزوف عن المشاركة الفاعلة في الحياة العامة. إعادة تفعيل خدمة العلم تأتي هنا لتفتح أمامهم نافذة جديدة نحو الانخراط في برامج وطنية عملية، تمنحهم فرصا للتدريب وتطوير المهارات، وفي الوقت ذاته تزرع فيهم روح المسؤولية والانضباط. إنها خطوة تستجيب لواقع اجتماعي يحتاج إلى إعادة ترتيب أولوياته، وتجديد منظومة القيم التي تربط أبناء الوطن الواحد.وتتجلى الأبعاد العملية للمبادرة في قدرتها على الجمع بين المبررات والأهداف في آن واحد. فمن جهة، تسعى الخدمة إلى معالجة تحديات البطالة عبر برامج تدريبية مهنية وتقنية تهيئ الشباب لسوق العمل وتمنحهم أدوات جديدة للاندماج في الحياة الاقتصادية. ومن جهة أخرى، تهدف إلى ترسيخ ثقافة الانضباط واحترام الوقت والعمل بروح الفريق، وهي قيم يحتاجها المجتمع في مؤسساته كافة. كما أن الخدمة، بما تتضمنه من تجارب جامعة للشباب من مختلف المحافظات والخلفيات، تشكل أرضية لتعزيز الوحدة الوطنية، وإذابة الفوارق الاجتماعية، وإعلاء قيمة المساواة التي تقوم عليها فكرة الوطن. وإلى جانب ذلك، فإنها توفر إطارا لحماية الشباب من الانجراف نحو مسارات سلبية، سواء تمثلت في التطرف أو الانعزال عن قضايا المجتمع.ولعل ما يميز القرار أنه لا يقتصر على البعد الأمني أو العسكري، بل يتسع ليشمل أبعادا اجتماعية واقتصادية وثقافية. فالشباب الذين يخوضون هذه التجربة سيخرجون أكثر ثقة بأنفسهم، وأقدر على مواجهة الضغوط، وأكثر استعدادا للمبادرة والعمل التطوعي وخدمة مجتمعهم. كما أن الدولة ستجني ثمارا مباشرة على صعيد تعزيز رأس المال البشري، حيث يتحول الشباب من فئة تنتظر الفرص إلى قوة قادرة على صناعة الفرص والمساهمة في التنمية.ومن الإنعكاسات التي يمكن رصدها أن الخدمة تعزز رأس المال الاجتماعي للدولة، إذ تخلق شبكات من العلاقات والتجارب المشتركة بين الشباب، وتزيد من مستوى الثقة المتبادلة بين المواطن ومؤسسات الدولة. ومن شأن ذلك أن ينعكس إيجابا على المشاركة المدنية، وعلى استعداد الشباب للانخراط في المشاريع الوطنية المستقبلية. وعلى المستوى الوطني الأشمل، فإن إعادة الخدمة ترفع من مستوى المناعة الداخلية للمجتمع الأردني، وتجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات الخارجية، سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو أمنية.بهذا المعنى، فإن إعادة تفعيل خدمة العلم تمثل رؤية مستقبلية بقدر ما هي استدعاء لتجربة تاريخية. إنها مبادرة تعكس إيمانا راسخا بأن الشباب هم عماد الدولة وضمانة استمرارها، وأن الاستثمار في قدراتهم وقيمهم هو الطريق الأنجع لبناء وطن قوي ومتماسك. نجاح هذه المبادرة لن يقاس فقط بعدد الشباب الذين يخضعون للتدريب، بل بمدى قدرتها على تحويل قيم الانضباط والمسؤولية إلى ثقافة عامة تتغلغل في مختلف مفاصل المجتمع. إنها دعوة إلى جيل جديد لكي يكتشف ذاته من خلال خدمة وطنه، ويعيد صياغة مستقبله على أسس من الالتزام والانتماء.وفي النهاية، فإن خدمة العلم الجديدة ليست مجرد تجربة عابرة، بل مشروع وطني طويل الأمد يهدف إلى بناء الإنسان الأردني بمواصفات قادرة على مواجهة التحديات وصناعة الفرص. إنها مدرسة حياتية كبرى تصنع قادة الغد، وتعيد الاعتبار لقيمة الوطن باعتباره الفضاء الجامع لكل أبنائه. ومع تفاعل الشباب مع هذه المبادرة، ودعم مؤسسات المجتمع لها، سيظل الأردن قادرا على المضي بثبات نحو المستقبل، مسلحا بجيل يعرف معنى الانتماء، ويؤمن أن خدمته لوطنه هي أشرف ما يمكن أن يقدمه.
أبو نوار يكتب: خدمة العلم.. منصة لتمكين الشباب وتعزيز الأمن المجتمعي
مدار الساعة ـ