أخبار الأردن اقتصاديات دوليات برلمانيات وفيات مجتمع وظائف للأردنيين أحزاب مقالات أسرار ومجالس مقالات مختارة تبليغات قضائية الموقف شهادة مناسبات مستثمرون جاهات واعراس جامعات مغاربيات خليجيات دين اخبار خفيفة ثقافة رياضة سياحة الأسرة طقس اليوم

أبو حجر يكتب: صور زمان


عاطف أبو حجر

أبو حجر يكتب: صور زمان

مدار الساعة ـ

هناك حيث تنحي الأزقة القديمة على وقع الحنين في لحظات لا تُنسى، تبقى عالقة في الذاكرة؛ تختبئ بين دخان الطابون المتطاير فوق أسطح البيوت السلطية العتيقة، ورائحة القهوة الممزوجة بنكهة تربة هذه الأرض الطيبة. لحظات تعيدك إلى قلب السلط، حيث الأزقة الضيقة التي تحفظ الحكايات، وحيث الصور لم تكن مجرد صور، بل بصمة وراثية لنا جميعا،فتملأ المكان دفئًا وحنينًا." وهرجة وسواليف الزمن الطيب، هناك،في كل مكان من السلط السلطانة،وتحديدًا في شارع "الميدان".

هذا الشارع الذي لا يشبه سواه، تتقاطع فيه أرواح المارّة وذكريات الطفولة، ويختبئ بين حجارته القديمة ستوديو صغير اسمه "ستوديو المأمون".

كان ذلك المكان أشبه بـ"صندوق العجائب" المخفي في قلب السلط. من يدخله، لا يخرج كما دخل.

كان الجدار الخلفي مزيَّنًا بستائر داكنة وورود بلاستيكية ذابلة، وفي الزاوية، طاووس محنّط ينظر إليك بحدة، كأنه يطلب منك الوقوف باستقامة.في بداية السبعينيات كانت

"أول صورة بحياتي" كانت هناك، في ذاك الاستوديو، يوم أخذنا أخي عاكف، أنا وأختي ريا، وأختنا الصغيرة نعمة، بمدرقتها المطرزة الصغيرة.

أتذكر جيدًا ماذا لبست: بنطال وبلوزة مخططة، وصندل بلاستيكي . شعرت يومها أني أرتدي أزياء باريس.

دخلت المكان وأنا متوتر ومندهش: إضاءة غريبة،صور معلقة على الحيطان، رائحة غبار، كاميرات ضخمة، كشافات وفلاش يضرب العيون فجأة وكأنه برق مفاجئ.

والمصور؟ الانيق والطيف، فنان مش عادي.

طلب منا أن نؤدي حركات معيّنة، وقال: "هيك الصورة بتطلع احلى،طلب مني أنا تحديدًا أن أرفع إصبعي واضحًا على خدي، وكانت حركة غريبة، إصبع مرفوع بزاوية، وكف مائل، وشعور عام بأني أعمل شيئًا مهمًا...

يمكن إعلان لمسحوق غسيل!

بعد سنوات، نشرت تلك الصورة، وبدأ سيل التعليقات من الزملاء والأصدقاء، ومنهم من قال:

منوّر

حشامة وفخامة

بتجنن يا زلمة ما شاء الله

شبه محمد فؤاد والله، خصوصًا بحركة الإصبع

ضحكتك فيها سر

وأخي عادل بيك كتب لي تعليقًا من القلب:

"لعيب من زمان!"

أما الصديق عبدالكريم فعلق تعليقًا ما بنساه، قال فيه:

"أسمع، أقسم بالله إنك طالع بالصورة نسخة عن المطرب "محمد فؤاد"، بالحركة هاي بالذات… قمر يا حجي من يومك!"

وأكد على كلامه وقتها الصديق هاني ، وأنا ساعتها بلّشت أصدّق…

بل تخيلت نفسي واقف على المسرح، والأضواء مسلطة علي، وبغني "بودّعك"...

لكن بصراحة، خفت أعيش الدور وأغني، لأن صوتي لا يساعدني أبدًا!وفي بداية الثمانينيات كانت

الصورة الثانية التي أذكرها ولا أستطيع أن أنساها، كانت في فترة المراهقة، حيث ذهبت إلى عمّان برفقة صديقي محمد الهاشم لحضور فيلم هندي لـ أميتاب باتشان.

وبعد الفيلم، نزلنا نتمشى في وسط البلد، حتى وصلنا أمام "المدرّج الروماني"، وهناك، كان يقف مصور غريب الشكل والهيئة، مميز في تصرفاته وإكسسواراته.

كان واقفًا بجانب صورة كبيرة من الخشب، مرسوم عليها رجل بلباس الكاوبوي الأمريكي يركب أسد الغابة!

وكان وجه "الأمريكي" مفرغًا، بحيث يقف من يريد أن يتصور خلف اللوحة، ويُخرج وجهه من الفتحة، فيبدو وكأنه هو من يركب الأسد.

سعر "الصورة الفورية" كان نصف دينار، وكنت فرحًا بها جدًا، على عكس شعوري الآن بالخجل منها.

صدقوني الآن ... لو دفعولي خمسين دينار، ما كنت رضيت أكرر نفس الصورة!

الناس زمان ما كانت تتصوّر عبثًا. كل صورة كانت حدثًا رسميًا.

في ناس كانت تتصور وهي شايلة مسدس، أو خرطوش، أو مسجّل، أو حتى سيجارة.

في ناس كانت تمسك وردة كأنها رايحة على موعد حب، وناس تطيل الشعر والسوالف، وتلبس نظارات شمسية داخل الاستوديو.

وفي ناس كانت تسلم على نفسها بالصورة، كأنها بتتودّع من الحياة.

وكانت قمة التميز وقتها إنك تطلع بالصورة عامل "فوتوشوب طبيعي"...

ملمّع شعرك بشويّة زيت زيتون، وتارك كم شَعرَة على الجنب، ومبتسم كأنك بتتحايل على الحياة.

وكانت الصورة – مهما كانت بسيطة – تحمل داخلها كل التفاصيل اللي بتخلّد لحظة.

واليوم، وأنا أنظر لتلك الصورة القديمة – ولا أجرؤ أن أنشرها مرة أخرى –

أتذكر كل شيء: الطفولة، الخوف من الطاووس، حركات المصور، الصندل البلاستيكي، والضحكة اللي حتى الآن مش عارف سرها.

بس اللي متأكد منه... إن أول صورة عمرها ما كانت مجرد صورة.

كانت لحظة انبهار، لقطة بريئة، وشهادة ميلاد لذاكرتنا القديمة.

مدار الساعة ـ