دولة رئيس الوزراء، إن المشهد الإعلامي الوطني لم يعد يحتمل العمل بردّات الفعل أو المعالجات الجزئية، فالتطور المتسارع في أدوات الإعلام التقليدي والرقمي، واتساع ساحات التأثير التي تجاوزت حدود الجغرافيا، يحتمان علينا الانتقال من منطق الإدارة اليومية المتفرقة إلى صياغة سياسة إعلامية عليا تُدار بعقل جمعي مؤسسي، يستند إلى القوانين والأنظمة والتعليمات، ويعتمد على التخطيط العلمي والرؤية المستقبلية.
إن تأسيس مجلس أعلى للإعلام بات ضرورة وطنية، لا خيارًا ترفيًّا، مجلس يجمع نخبة من أصحاب الخبرات العملية الواسعة والمعرفة العصرية بأدوات الإعلام، ممن يجيدون قراءة المشهد وتحليل سياقاته وفهم ديناميكيات التأثير، وقادرين على رسم استراتيجيات متكاملة، وتحديد أولويات واضحة، وصياغة رسائل رصينة تحاكي الداخل وتحاور الخارج بلغة واثقة ومقنعة.مجلس كهذا يجب أن يكون درعًا معرفيًا وتشريعيًا وتنظيميًا، يعزز المهنية، ويضبط الإيقاع، ويضع معايير واضحة تضمن حرية التعبير وتحفظ هيبة الدولة، وينظم العلاقة بين الإعلاميين والمؤسسات الرسمية، ويؤسس لجبهة إعلامية قادرة على مواجهة الحملات الممنهجة والتضليل الإعلامي، بما في ذلك مكافحة الذباب الإلكتروني الذي ينهش في ثقة المواطن ويعكر صفو المشهد الوطني. الكف لا يواجه مخرز، وليس – لا سمح الله – في ذلك تقليل من قدرات أي من القيادات الإعلامية، بل ليكون هذا المجلس رديفًا قويًا وداعمًا للخطط الإعلامية بمنهجية عالية.هذه المواجهة لا تكون فقط برد الهجمات، بل بامتلاك أدوات السبق والمبادرة وصناعة المحتوى النوعي القادر على كسب العقول قبل العيون، وامتلاك منصات فعالة توظف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتحليل الرقمي لرصد الخطاب، وقياس أثر الرسائل، وضبط إيقاع التفاعل الشعبي بما يخدم المصلحة الوطنية العليا.إن المجلس الأعلى للإعلام يجب أن يُبنى على قواعد علمية مدروسة، تبدأ من تشخيص الواقع بموضوعية، مرورًا بوضع خطط استراتيجية قابلة للتنفيذ والقياس، وصولًا إلى تفعيل أدوات الرقابة الذاتية والمساءلة المهنية، مع ضمان رفد الكوادر الإعلامية بالتدريب المستمر والتأهيل العملي في أحدث مدارس الإعلام والتواصل في العالم.فالإعلام اليوم ليس ترفًا، بل هو سلاح سيادي ناعم، إن أُحسن استخدامه كان سياجًا للوطن، وإن تُرك للفوضى صار ثغرة تنفذ منها الأزمات والشائعات والتشويه. دولة الرئيس، إن الأردن بما يملكه من إرث سياسي ومكانة دولية وتجربة إصلاحية، يستحق أن يقود نموذجًا إقليميًا في العمل الإعلامي المؤسسي، وأن يضع معايير تليق بمكانته ودوره، ولا يتحقق ذلك إلا بإرادة سياسية صلبة، ومأسسة حقيقية للقرار الإعلامي، وتكامل الأدوار بين الدولة والقطاع الخاص والخبراء المستقلين، في إطار مجلس أعلى للإعلام يقود بوعي، ويعمل بمنهج، وينجز بنتيجة.إننا اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة تشكيل عقل الدولة الإعلامي بما يواكب العصر ويحمي الوطن، وهي فرصة إن التقطناها صنعنا فارقًا، وإن أهملناها سندفع ثمن الفراغ أضعافًا.
الزعبي يكتب: المجلس الأعلى للإعلام… قرار سيادي لحماية الرواية الوطنية
مدار الساعة ـ