لا أعرف صراحة لماذا نصر على الاستمرار في نظام التقاعد المبكر ونحن ندرك جميعا حجم الضرر الذي يلحق بنا جراءه، ولا أفهم أيضا سبب"الصمت المطبق" تجاه تعديل هذا النظام أو وقفه فورا، رغم علمنا المؤكد بأنه يلتهم مدخراتنا المستقبلية ويقوض مصلحة الأجيال القادمة، فما المانع من إيقافه أو إعادة النظر فيه بجدية؟.
تخيلوا أن أكثر من 63% من المتقاعدين خرجوا من سوق العمل عبر نظام التقاعد المبكر، أي ما يزيد عن 160 ألفاً من أصل 259 ألف متقاعد ضمان، معظمهم إن لم يكن جميعهم ما زالوا في سن منتجة مؤهلون للعطاء والمشاركة الاقتصادية، فـ"التقاعد المبكر" لم يعد يعكس فقط ميول الأفراد، بل يكشف عن خلل في السياسات، وسوء فهم لدور مؤسسة الضمان الاجتماعي.
القطاع العام وحده يستحوذ على أكثر من 60% من حالات التقاعد المبكر، والمفارقة أن هذا النظام وضع أساسا لحماية العاملين بالمهن الخطرة، لكنه تحول للأسف لـ"وسيلة" يستخدمها البعض، أفرادا ومؤسسات،كطريق مختصر نحو الراحة وتخفيف الأعباء، فيما يبقي نزيف مدخرات الضمان مستمرا وببطء قاتل.
يظن البعض أن "التقاعد المبكر" خيار شخصي أو ميزة وظيفية، لكنه في الواقع أصبح كابوسا ماليا يهدد استدامة صندوق الضمان الاجتماعي، ويدفع به لحافة الخطر عاجلا أم آجلا، فالنزيف الناجم عن استمرار هذا النظام ليس مجازيا، بل هو نزيف مالي حقيقي، إذ تدفع مؤسسة الضمان رواتب تقاعدية لمتقاعدين بالخمسينيات من أعمارهم لسنوات طويلة، دون أن يقابل ذلك باشتراكات.
للأسف، المعادلة باتت مقلوبة، والنتيجة واضحة، وتكمن في استنزاف الإيرادات وتضخم النفقات، وتراجع في الاستثمارات والنمو المستقبلي،وكل ذلك يحدث وسيحدث في ظل غياب القرار الجريء الذي يوقف هذا النزيف والتحرك سريعا دون مجاملات أو تسويف،فالضمان ملك لأكثر من مليون ونصف المليون مشترك يعولون عليه لضمان كرامتهم في المستقبل.
والأنكى أن هذه الرواتب التقاعدية، التي تكلف الضمان الاجتماعي مليارات الدنانير، لا توفر غالبا حياة كريمة كما يُخيّل للبعض، فهناك أكثر من 33 ألف متقاعد مبكر يتقاضون أقل من 200 دينار شهريا، وأكثر من 260 ألفًا يتقاضون أقل من 500 دينار، ما يعني أن التقاعد المبكر لا يضمن رفاهية ولا يُحقق أمنًا ماليًا حقيقيًا.
خلاصة القول، التقاعد المبكر، بصيغته الحالية، لم يعد "حماية اجتماعية"، بل أصبح"كارثة مالية"، بحيث أن استمراره بهذا الشكل هو أشبه بكتابة "شهادة وفاة" مبكرة للضمان الاجتماعي،ويقوض قدرته على الاستمرار بشكل أناني يهدر حقوق الأجيال المقبلة، ولهذا، فالوقت مناسب، بل ملح جدا، لاجل اتخاذ قرار شجاع لترميم هذه الثغرة التي تنذر بانهيار أحد أهم مؤسسات الحماية الاجتماعية في البلاد.

التقاعد المبكر.. إلى متى؟
مدار الساعة (الرأي الأردنية) ـ