في الخامس والعشرين من أيار، تتوشّح المدن الأردنية بألوان العلم، وتنبض الأرواح بإيقاع الاحتفال، وكأنها تستعيد ولادتها الأولى من رحم الكفاح، حين نالت البلاد استقلالها عام 1946، وتحررت من عباءة الانتداب. هو يوم لا يُختزل في مسيرة أو مهرجان، بل هو خلاصة تاريخ، وصدى تضحيات، ومعنى يتجدد في الوجدان عامًا بعد عام.
لكن ما بين السطور، كان ثمّة مشهد آخر... مشهدٌ خافت، لا يُرفع في الاحتفالات، لكنه يطلّ من زوايا مظلمة في الوعي الجمعي.
فأثناء تجوالي في شوارع المدينة، وأثناء مروري في دهاليز الفضاء الرقمي حيث تُنشر الكلمات كما تُطلق الأسهم، التقطت أذني أحاديث عابرة تُشير إلى إجابات متضاربة حول تاريخ استقلال الأردن. كان السؤال بسيطًا: "متى استقلّت المملكة الأردنية الهاشمية؟" لكن الإجابات لم تكن على ذات البساطة؛ تباينت بين أعوام خاطئة، وصمت متردد، ومحاولات لتذكّر ما يفترض أن يكون راسخًا في القلب قبل الذاكرة.
وفي لحظة أخرى، عادت صورة لا تفارق البال؛ طفل في مقتبل العمر تتلمذ في مدارس الأردن، يُزيل العلم الأردني من مكانه، ويلقي به أرضًا. مقطع فيديو تم تداوله مؤخرا ، لكنه كان كافي لهزّ الوجدان. ليس لخطأ الطفل، بل لما ترمز إليه تلك اليد الصغيرة التي لم تُدرّب على حمل راية الوطن كما ينبغي.
... يتقاطع المشهدان، وتتشابك الأسئلة: أين التعليم؟ أين المدرسة؟ أين المناهج التي من المفترض أن تغرس الانتماء قبل الأبجدية؟ وأن تغرس قيم المواطنة الفاعلة؟ أليس من المفترض أن يكون تاريخ الاستقلال محفوظًا في الذاكرة كما تُحفظ الأسماء؟ كيف لطفلٍ وُلِد وترعرع في مؤسسات تعليمية أردنية أن يجهل يومًا كهذا؟ وكيف له أن يُنزل العلم من مكانه وكأن لا قيمة رمزية له في وجدانه؟
المدرسة لم تعد مجرد مكان لتلقين الدروس، بل هي مؤسسة لصناعة المواطن، لبناء وعيه الجمعي، وشكل انتمائه، وطبيعة علاقته بوطنه. وحين يفشل النظام التعليمي في تحقيق هذه الوظيفة الجوهرية، فإن الخلل لا ينعكس فقط على التحصيل العلمي، بل على مستقبل الهوية الوطنية بأكملها.
إن تدريس "الوطنية" لا يجب أن يكون حصة معزولة في جدول الأسبوع، بل يجب أن يتخلل كل درس، من اللغة إلى الرياضيات، وأن يُترجم في نشاطات المدرسة كما يُترجم في سلوك المعلمين، وأن يُحيا في الأناشيد، وفي القصص، وفي الرحلات، وفي أسماء القاعات.
لا يكفي أن نُدرّس الطلاب متى استقل الأردن، بل يجب أن نُعلّمهم لماذا كان ذلك مهمًا، وكيف تحقق، وبأي كلفة. لا يكفي أن نعلّمهم أن يرفعوا العلم، بل أن يشعروا أنه رايتهم، وأن الأرض التي تظللها هذه الراية هي بيتهم الكبير.
فمشهد الطفل الذي يطيح بالعلم ليس مجرّد تصرف عابر، بل هو نتيجة لسلسلة من القصور المتراكم؛ قصور في المنهاج، في الإرشاد، في الخطاب التربوي، وفي الدور المجتمعي ككل.
وفي زمن تُخاض فيه المعارك أحيانًا بلا مدافع، بل بمنشور أو مقطع أو فكرة، تصبح القيم الوطنية خط الدفاع الأول. والاستقلال حين لا يُروى بشكل صحيح قد يتحوّل إلى يوم عطلة، لا أكثر.
حين جمعتُ بين المشهدين، أدركت أننا لا نواجه مجرد سلوكيات فردية، بل ظاهرة تُحيلنا إلى سؤال عميق ومُلح: أين يقف التعليم الأردني اليوم من ترسيخ القيم الوطنية؟ أين هو من زرع الانتماء في نفوس الطلبة، ومن بناء وعي جمعي بتاريخ هذا الوطن، وتضحيات رجاله، ورمزية استقلاله؟
لا أكتب هذا بدافع جلد الذات، بل بدافع الغيرة على وطن علّمنا أن نرفع الرأس عاليًا. لا أكتب لانتقاد طالب لم يحفظ التاريخ، أو طفل أساء للعلم، بل لأتساءل: من المسؤول عن هذا الخلل؟ هل فشلنا في إيصال قصة الأردن إلى أبنائه؟ وهل تركنا المناهج حبرًا على ورق دون أن نغرس في نفوس الأجيال معنى الرموز التي يرددونها في الطابور الصباحي؟
الاستقلال ليس يوماً نحتفل به، بل مسيرة وعي، وذاكرة جمعية يجب أن تُنقل بسلاسة وصدق إلى كل من سيحمل الراية بعدنا. وإن لم نحسن تعليم أطفالنا معنى الوطن، فسيأتي يوم يسألوننا فيه: لماذا نحتفل؟ ولن نملك الجواب.