في الخامس والعشرين من أيار من كل عام، لا نحتفل بيومٍ عابر في رزنامة الأمم، بل نستحضر لحظة فاصلة في وجدان هذا الوطن، لحظة ولادة الدولة الأردنية المستقلة بإرادة حرة، وعزيمة لم تُثنها الصعاب، وكبرياء لم ينكسر أمام تحديات الجغرافيا والتاريخ.
إنّ الاستقلال الأردني لم يكن منحة، ولا ثمرة صفقةٍ دولية، بل جاء تعبيرًا ناضجًا عن نضج وطني مبكر، ووعي جمعي تشكّل في رحم التضحيات، وتشرب من حليب الفقر والكبرياء، وسُقي بعرق الجنود والمزارعين والمعلمين والآباء المؤسسين، الذين آمنوا أن الكرامة لا تُستعار، وأن السيادة لا تُستجدى.
لقد اختار الأردنيون، بوعي وطني متقد، أن يبنوا دولة ترتكز إلى الشرعية الدستورية، وتستظل بقيادة هاشمية حكيمة، اختزلت إرثًا من النسب الشريف، إلى مشروع نهضوي حديث، يقوده اليوم جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، القائد الذي لم يساوم يومًا على هوية الوطن، ولم يتردد لحظة في أن يكون الأردن حيث يجب أن يكون: في مقدمة الصفوف، على جبهات الشرف، وفي خنادق الدفاع عن قضايا الأمة.
وفي ركابِه، يمضي سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني، وليّ العهد الأمين، حاملًا شعلة الأمل المتجدد، بلغة جيله، وبفهمه العميق لما ينتظر هذا الوطن من استحقاقات كبرى، سياسيًا واقتصاديًا وتنمويًا.
إنّ عيد الاستقلال ليس مجرد مناسبة احتفالية، ولا هو نشيد يُتلى على منصات المناسبات. بل هو استدعاء دائم للذاكرة الجمعية، لتاريخٍ صنعه الأردنيون بالإيمان والعزيمة، لا بالضجيج والشعارات. ومن لا يُدرك أن الاستقلال الأردني جاء بإرادة وطنية صلبة، فإنه لم يقرأ التاريخ جيدًا، أو اختار أن يُعمِي عينيه عن رؤية الحقيقة التي لا تُحجب بغربال.
يكفي هذا الوطن فخرًا أنه بقي طليقًا في زمنٍ قيّد فيه الاستعمار شعوبًا، ومسخ فيه الهويات، وقطع فيه ألسنةً عن لغتها الأم. يكفيه أنه بقي يتكلم العربية، ويدافع عن فلسطين، ويتقدم الصفوف في كل قضية عربية وإسلامية عادلة، حين كانت بعض العواصم تنأى بنفسها عن “الحرج”!
وقد آن الأوان لنقولها بوضوح: الاحتفاء بالاستقلال ليس فعل ترف، بل هو تعبير عن وعي، وموقف من تحديات الداخل والخارج. من يعيب على الأردنيين احتفالهم بعيدهم الوطني، هو ذاته من لا يجد حرجًا في الرقص على أنقاض أوطان أخرى. ومن يسخر من الفرح الأردني، يفضح ذاته، لا وطننا.
لقد صمتنا كثيرًا أمام الحملات الممنهجة التي استهدفت الأردن: جيشه، أمنه، مؤسساته، وقيادته. لكن آن لهذا الصوت أن يعلو. آن للوعي أن يترجم إلى موقف، وللفخر أن يتحول إلى فعل. فالوطن الذي لم ينحنِ يومًا، لا يليق به أن يحتفل بخجل، ولا أن يبرر فرحه لأحد.
إنّ دروس الاستقلال كثيرة، لعل أهمها أن السيادة تُصان بالوعي، وأن الوطن يُبنى بالإخلاص، لا بالتنظير. وأنّ من يتآمر على الروح الوطنية، ولو كان بكلمة، هو في الحقيقة شريكٌ في مشروع النيل من الكرامة الجماعية.
وفي هذه اللحظة المفصلية من عمر الأمة، حيث تتعرض القضية الفلسطينية لأشرس هجمة استعمارية، يقف الأردن بقيادته الهاشمية الحكيمة، صلبًا كالسنديانة، ثابتًا على الحق، لا يتلوّن، ولا يتاجر، بل يمضي بخطى واثقة، حاملًا أمانة التاريخ والجغرافيا، مدافعًا عن القدس، وعن الإنسان الفلسطيني، كما دافع دومًا عن كل حق، ووقف إلى جانب كل مظلوم.
إنها مناسبة لنجدد العهد، لا للقيادة فحسب، بل للذات الأردنية التي لم تفقد بوصلتها، رغم كل العواصف. وهي فرصة لنؤكد أننا لا نحتفل بذكرى، بل نجدد عهدًا، ونكتب فصلًا جديدًا من ملحمة الصبر، والإصرار، والبناء.
فكل عامٍ وأردننا العزيز بخير،
كل عام وجيشنا وأجهزتنا الأمنية، درع الوطن وسياجه، بألف خير،
وكل عام وقائد الوطن، جلالة الملك عبدالله الثاني، وولي عهده الأمين، سمو الأمير الحسين، بألف عزّ وسؤدد.