أخبار الأردن اقتصاديات دوليات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين أحزاب مجتمع مقالات أسرار ومجالس تبليغات قضائية مقالات مختارة مستثمرون جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات جامعات مغاربيات خليجيات دين رياضة اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

قاقيش تكتب: حين يعيد الأبناء تشكيل آبائهم


الدكتورة غاده قاقيش
اخصائية نفسية وتربوية

قاقيش تكتب: حين يعيد الأبناء تشكيل آبائهم

 الدكتورة غاده قاقيش
الدكتورة غاده قاقيش
اخصائية نفسية وتربوية
مدار الساعة ـ

غالبًا ما يُنظر إلى التنشئة الوالدية على أنها اتجاه أحادي؛ الآباء يربّون، والأبناء يتلقّون. لكن من تجربتي الشخصية والمهنية، أجد نفسي أطرح تساؤلًا يبدو جريئًا:

هل يمكن أن يعيد الأبناء تشكيل أساليب آبائهم؟
وهل يُسمح لهم – أخلاقيًا وإنسانيًا – أن يطرحوا أسئلة حول طريقة تربيتهم، وربما يسهموا في تصحيحها لاحقًا؟
أكتب هذه السطور وأنا أحمل ثلاث هويات متقاطعة: ابنة نشأت في سياق ثقافي واجتماعي تقليدي، وأم تسعى لتربية أكثر وعيًا، وأخصائية نفسية ومدرّسة جامعية تؤمن بقوة العلم في تحسين جودة الحياة الأسرية.
ووفقًا لما طرحته الباحثة ديانا بومريند ((Baumrind, 1967، تُصنّف أساليب التنشئة الوالدية إلى ثلاثة أنماط رئيسية: النمط التسلطي، الذي يتّسم بالصرامة وقلة الدفء العاطفي ويُركّز على الطاعة والانضباط؛ والنمط المتساهل، الذي يغلب عليه الدعم العاطفي مع غياب الحزم، مما قد يؤدي إلى غموض الحدود لدى الأبناء؛ وأخيرًا النمط الديمقراطي، الذي يوازن بين الحزم والتعاطف ويُعدّ الأكثر ملاءمة لتنشئة أطفال يتمتعون بتوازن نفسي واجتماعي. وفي وقت لاحق، اقترح باحثون مثل ماكوبي ومارتن (1983) إضافة نمط رابع يُعرف بالأسلوب المهمل، وهو نمط يتّسم بغياب كل من الرعاية والرقابة، ما قد يُخلّ بتطور الطفل على مستويات متعددة.
بوصفي ابنة، ما زلت أسترجع لحظات شعرت فيها أنني لم أُفهم أو أُحتوى بالشكل الكافي. لم يكن ذلك بدافع الإهمال، بل لأنه لم تكن لدى والديّ أدوات معرفية ونفسية تتيح لهم فهمًا أعمق لمشاعري.
أما اليوم، وأنا أمّ، أجد نفسي في مواجهة تحدٍ كبير: كيف أربي دون أن أكرر؟ كيف أوازن بين الحب والحزم دون الوقوع في إفراط أو تفريط؟ هنا يظهر الفرق بين حسن النية وحسن الفعل، بين ما كان يُعتقد أنه "تربية صالحة" وبين ما تثبته الدراسات الحديثة.
إن وعيي النفسي المهني يدفعني لمراجعة الذات باستمرار. وأحيانًا، ألاحظ بوضوح كيف يقوم أطفالي "بتربيتي" – حين يُظهرون لي أن بعض ردود أفعالي تحتاج للمراجعة، أو حين يُعبّرون عن احتياجات لم أكن مدركة لها من قبل.
تؤكد نظرية النظم العائلية أن الأسرة ليست تركيبة هرمية جامدة، بل منظومة ديناميكية، يتأثر أفرادها ببعضهم البعض بشكل متبادل. هذه النظرية تفتح المجال لفهم جديد للتنشئة: أنها ليست فعلًا أحادي الاتجاه، بل علاقة تفاعلية قابلة للتعديل والتطور. وقد دعمت هذه الفكرة دراسات حول ما يُعرف بـ"التنشئة التبادلية" (Bidirectional Parenting)، التي ترى أن سلوك الأبناء يمكن أن يغيّر سلوك الوالدين، خاصة عندما يكبر الأبناء ويمتلكون وعيًا ومهارات تعبير أفضل .بل إن بعض الدراسات تشير إلى أن الأبناء، من خلال تفاعلهم الواعي أو حتى غير الواعي، قد يساعدون آباءهم على تطوير جوانب في ذواتهم لم تكن قد نضجت بعد.
كثيرًا ما يُساء فهم دعوة الأبناء إلى مراجعة أساليب تربية آبائهم على أنها نوع من العقوق أو عدم الامتنان. لكنّ الواقع أكثر تعقيدًا . فالمساءلة هنا لا تأتي من موقع سلطة مضادة، بل من رغبة في بناء علاقة ناضجة. وقد أظهرتالدراسات أن الأطفال الذين يُسمح لهم بالتعبير عن آرائهم وتقديم تغذية راجعة، يُظهرون التزامًا أعلى بقيم الأسرة وشعورًا أكبر بالانتماء. المساءلة لا تعني إلغاء دور الوالد، بل تجديده. ولا تعني تمرّد الأبناء، بل شراكتهم في بناء بيئة أسرية أكثر وعيًا واتزانًا.
التربية ليست نصًا مغلقًا، بل مشروعًا مفتوحًا للتطوير المستمر. واعتراف الوالدين بأنهم "يتعلمون" من أبنائهم ليس ضعفًا، بل تجلٍّ لنضج نفسي وإنساني عميق. كأخصائية نفسية، أرى في كل أسرة فرصة للشفاء المتبادل، حيث يُعلّم الأب ابنه احترام الذات، ويُعلّم الابن والده كيف يعبر عن الحب.
وكأم، أتعلّم كل يوم أن أطفالي لا يحتاجون إلى "نسخة مثالية" منّي، بل إلى نسخة إنسانية، قابلة للتغيير والتعلّم والاعتذار.

مدار الساعة ـ